(1)
((أرض الحرم ))
إبراهيم وسارة ـــ
كان (( إبراهيم )) ــ عليه السلام ــ عبداً قانتاً لله ؛ مخلصاً فى عبادته ، حريصاً على طاعته ، مسرعاً إلى رضاه 0 وكان له زوجة صالحة تسمى
" سارة " وكان يحبها وتحبه ، ويخلص لها وتخلص له 0
قضى إبراهيم وزوجه عمراً طويلاً دون أن يُرزَقا بولد ، حتى كبر إبراهيم وصار شيخاً هرماً ، وشاخت سارة وجاوزت سن الولادة 0 وكان إبراهيم يرجو أن أن يكون له ولد يؤنسه فى حياته ، ويعينه فى شيخوخته ؛ وكانت زوجه سارة ترجو مثل ما يرجو 0
وكانت لسارة جاريةٌ تسمى " هاجر" ، جاءت بها من مصر وإتخذتها خادماً لها ؛ فوهبتها لإبراهيم وقالت له : إنى كبرت ياإبراهيم ، وصرت عجوزاً فانية ، وإنقطع أملى أن يكون لى ولد بعد هذه السن ؛ وهذه جاريتى هاجرُ قد وهبتها لك ، عسى أن يرزقك الله منها ولداً تَقَرُُ به عينك0000
ودخل إبراهيم بهاجر ، فرزق منها ولداً سماه " إسماعيل "
*********************************************
(2)
إسماعيل وهاجر
فرح إبراهيم فرحاً عظيماً بولده إسماعيل ، وفرحت به أمه "هاجر" ، وأخذت تُحس بمكانها فى البيت ، وتشعر أنها لم تعد خادمة كما كانت ؛ بل أصبحت أماً تفخر بولدها ، وتعتزبه كما تعتز الأمهات 000 وأحست "سارة " أن خادمتها قد تغيرت لها ، وغدت تعتز بمكانها فى الأسرة ؛ وأحست كذلك أن إبراهيم يزداد فرحه بإسماعيل يوماً بعد يوم ، وأن عنايته كذلك تزداد بأمه "هاجر " فأخذتها الغيرة ، وحَزً فى نفسها أن يكون لخادمتها ولد وليس لها ولد0
وكان إبراهيم حريصاً أشد الحرص على رضا " سارة " لأنها شريكة حياته
ورفيقة صباه وشيخوخته0 فلما أحس بأن الغيرة قد أخذت تداخلها من جاريتها " هاجر" أراد أن يفرق بينهما ؛ فأخذ هاجر وأبنها إسماعيل ، وانطلق بهما يسيح فى أرض الله 00 ومازال ينتقل من مكان إلى مكان ، ومن أرض إلى أرض ، حتى حط رحاله بهما فى أرض " مكة " 0
وكانت أرض مكة فى ذلك الحين أرضاً موحشة ، خالية من الناس والزرع والماء ، ولكن الله أوحى إلى إبراهيم ، أن يترك أبنه" إسماعيل" وأمه
" هاجر " فى هذه الأرض ؛ فاسجاب إبراهيم لأمر ربه ، وتركهما فى هذا المكان القفر ، وترك معهما جراباً فيه قليل من التمر ، وسِقاءً فيه قليل من الماء ،ثم قفل راجعاً إلى زوجه "سارة " ، فى أرض فلسطين 0
***
فلما هم أن ينصرف تعلقت به " هاجر " وقالت له: إلى أين ياإبراهيم ؟
أتتركنا فى هذه الأرض الخلاء ، لا طعام لنا ولا شراب ، ولا أنيس لنا ولا مغيث ؟ فتأثر إبراهيم وغلبته عيناه ، فلم يستطع أن ينظر إليهما ، وانطلق يمشى فى طريقه 0
لكن "هاجر" لم تتركه ، وظلت متعلقة به تصيح : إلى أين ياإبراهيم ؟ إلى أين ياإبراهيم ؟ 000 ظل إبراهيم منطلقاً فى طريقه لا يتلفت إليها ولا إلى ولده 0 فلما رأت أنه لا يجيبها ولا يتلفت إليها ، سألته قائلة : آلله أمرك بذلك ؟ قال: نعم قالت : إذن فهو لن يتخلى عنا ، ولن يضيعنا! 000
وإنكفأت راجعة إلى صغيرها 0
أما إبراهيم فقد ظل مندفعاً فى طريقه لا يَلْوِى على شئ ، حتى وصل إلى منعطَف الطريق ؛ وهنالك جاشت نفسه بعاطفة الرحمة لهذين الضعفين:
طفله إسماعيل وجاريته هاجر ؛ فألقى عليهما نظرة دامعة ، ثم رفع يديه إلى السماء ضارعاً ، وهتف يدعو الله قائلاً :
((رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) ))
ثم انثنى فى طريقه وقد اطمأن قلبه ، وسكنت نفسه ، وزالت مخاوفه وأيقن أن الله الذى لا تنام عينه ، سيرعاهما ، ويحوطهما بعنايته 0
وهكذا سار إبراهيم إلى فلسطين ، وهو مطمئن إلى رعاية الله لطفله وجاريته0
********************************************
(3)
حيرة هاجر
أما هاجر فقد عادت إلى ولدها تضمه إلى صدرها وتغمره بحنانها ، مستسلمة لأمر الله مؤمنة بأن الله معها ، وأنه ما ساقهما إلى هذا المكان القفر ، إلا لحكمة يعلمها وأمر ٍ يدبًره وما هى إلا لحظة حتى كفكفت دموعها ، وابتسمت لطفلها ؛ ونظرت إلى جراب التمر فأخذت منه حَفْنة ، وجعلت تأكل منها فى هدوء واطمئنان ؛ ثم مدت فمها إلى سقاء الماء فأخذت منه جُرعة ؛ ثم قالت ’’ الحمدلله الذى أطعمنى فأشبعنى ، وسقانى فأروانى ,, !
ومازلت "هاجر " تأكل من ذلك التمر وتشرب من ذلك الماء ، حتى فرغ التمر والماء ، وأصبحت لا طعام عندها ولا شراب 0
ماذا تفعل إذن ؟ 000 لم تجزع ولم تيأس ، وظلت صابرة على الجوع والعطش ، وهى فى كل لحظة تنتظر فرج الله ورحمته000
وطال بها الإنتظار وتمادى بها الصبر ، واشتد بها الجوع والظمأ00
ولكن كيف يتسنى لهذا الطفل الضعيف أن يصبر ؟
لقد أخذ الطفل يتلوى من الألم ، ويئن أنيناً يفطًر القلب ، وأمه تنظر إليه حائرة لا تدرى ماذا تفعل 000
هنالك لم تستطع أمه صبراً ، ولم تطق أن تنظر إلى وليدها وهو على هذه الحال ؛ فانطلقت تجرى ههنا وههنا ، لعلها تجد أحداً يسعفها بشربة ماء وكان " الصًفَا " أقرب جبل إليها فصعدت عليه ، وتطلعت حواليها فلم تر أحداً فنزلت تُهَرْوِل إلى بطن الوادى حتى وصلت إلى " المَرْوَة" فصعدت فوقه وتطلعت فلم تر أحداً ؛ فعادت تجرى إلى الصفا ، ثم إلى المروة ثم إلى الصفا ثم إلى المروة حتى أتمت سبعة أشواط وهى تجرى مكروبة ملهوفة000
**********************************************
(4)
نجدة السماء
فلما انتهت إلى المروة فى الشوط السابع سمعت صوتاً يرن فى أذنيها ، فتسمعت وأنصتت فسمعت مرة أخرى فصاحت قائلة : ياصاحب الصوت أغثنا إن كان عندك غوث !000 ثم التفتت تنظر إلى الطفل فإذا مَلَك من السماء يهبط نحوه حتى حط بجانبه فاندفعت نحوه مسرعة فإذا الملك يفحص برجله فى الأرض ، فنبثق الماء من بين أصابعه متدفقاً فوًاراً فكبرت "هاجر " وانكبت على الماء تحوشه بيديها وهى تقول :"زم 00زم 00" " زم00زم 00" وجعلت تغرف منه فى سقائها وهو يفور ويفور ويسيح على ما حوله من الرمال والصخور 0
وهكذا سقت هاجر رضيعها ، وأرْوَت ظمأها وسجدت لله شكراً على ما أدركها به من الغوث والرحمة أما الملك فقد أرتفع محلقاً فى السماء بعد أن ودع " هاجر " وطفلها وبعد أن ألقى فى رُوعها أن الله معها ، وأنه سيشملها ويشمل طفلها بخير كثير 0
وجعلت " هاجر " تتطلع إلى الملك وهو محلق فى السماء حتى أختفى عنها 000 فلما غاب عن ناظريها أحست بالوحشة وودًت لو أنه بقى معها فلم يفلرقها وتطلعت نفسُها إلى الأنس فى هذه الوحدة الموحشة وتمنت لو أن الله ساق إليها جماعة من الناس ، يزيلون عنها وحشة العزلة والانفراد0