فلم يشعر ذلك
الغني إلا وهو بين براثن الفقر يقلب كفيه وهي خاوية، وحاله كحال أصحاب
الجنة: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا
بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا
مُصْبِحِينَ} إلى أن قال -سبحانه-: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ
أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 17-33].
وفراغك قبل
شغلك
وكم من متفرغ
من الأعباء والمسئوليات أوقاته واسعة، والنعم بين يديه راتعة، فلم يقدر لذلك قدرًا!
ولم يعرف للنعمة عليه حقًا، بل أضاع أوقاته ما بين اللعب والطرب والسهر والسفر، قد
انشغل بما لا يصلح شغلًا في الحقيقة، قتلته سهام الأماني ورماح التسويف، وليت هذا
وأمثاله يستشعر قول المصطفى: «نعمتان مغبون فيهما كثير من
الناس: الصحة والفراغ» [الراوي: عبدالله بن عباس، المحدث: البخاري،
صحيح].
وصدق
القائل:
إن الشباب
والفراغ والجدة *** مفسدة للمرء أي مفسدة
مرّ أحد
السلف عل قوم يتسامرون في مقهى قد علا ضحكهم وكثر لغطهم فتأوّه وقال: "ليت أن
الأوقات تُباع وتُشترى لاشتريت من هؤلاء أوقاتهم". فمن حاله كذلك ولم يبادر إلى
التوبة النصوح لن يستفيق إلا حين ينادى عليه: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ}
[المؤمنون: 112].
وحياتك قبل
موتك
وكم من حي
غزاه الموت قبل أن يغزو إليه! اشتغل بدنياه وغرّته الأماني فلم يستفد من حياته إلا
ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى، ولم يفق إلا وهو في عسكر الموتى مرهون بعمله، ولسان
حاله يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ (99)
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:
100،99] وما أكثر هؤلاء في هذا الزمان! أقوام هم في عداد الأحياء
وهم في الحقيقة أموات.
قد مات قوم
وما ماتت مكارمهم *** وعاش قوم وهم في الناس
أموات
فيا
شاباً غرّه شبابه وأهلكه إعجابه، أما تعلم أن عاقبة
الشباب هِرم؟! أما علمت أن الموت بالمرصاد، والمنايا تتخطف الأكابر والأصاغر،
والأباعد والأقارب؟! فما يدريك لعل الساعة الآتية ساعتك والمنية منيتك؟! فليت شعري
ما الذي تتمناه وأنت في السكرات قد غشيتك العبرات. أأغنية تريد سماعها أم خمرة تدير
كأسها، أم بغية تفجر بها، أم تريد ما قال ربك على لسان أولئك: {رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ
صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 100،99].
ويا
شيخًا أضاء الشيب طلعة محياه، قد استحيا الله منك فهل
استحييت منه، قد جاءتك نذر ربك، فما عذرك من أولئك النذر إذا قيل لك: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ
مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} [غافر: 37]، أم أنت كما قال القائل:
شاب الصبا
والتصابي بعد لم يشب *** وضاع وقتك بين اللهو
واللعب
وشمس عمرك قد
حان الغروب لها *** والفيء في الأفق الغربي لم
يغب
كم ذا التخلف
والدنيا قد ارتحلت *** ورسل ربك قد وافتك في
الطلب
وكيف سيكون
لقاؤك لرسل ربك، وما ردك عند طلبهم لك، فوصيتي إليك أيها الشيخ أن تستعد للقاء ما
دمت في البقاء، واربط حزام الإيمان لعلك تصل إلى الله بأمان.
ويا
فتاة فتنت بحسن طلعتها وبهجتها وجمالها، فتنت بالثياب
وموضتها، والشعور وقصتها، والقنوات وفضيحتها، والمجلات وخلاعتها، أيسرك أن تلقى ربك
بهذا، أما تذكرت حديث الكاسيات العاريات، المائلات المميلات، اللاتي لا يدخلن الجنة
ولا يجدن ريحها؟! أما تذكرت أن أكثر أهل النار من النساء فتتقي ذلك بالتوبة
النصوح؟!
فشمري يا أختاه عن ساعد الجد، واعلمي أن الدنيا لا تدوم على
حال، وأن الموت قد يحول بينك وبين الآمال، وفقني الله وإياكِ لصالح الأعمال.
وأخيرًا.. أخي -رعاك الله- قبل رحيل هذا
القلم أُذكرك بالرحيل الأعظم، واسأل نفسك بأي شيء تلقى ربك؟! ما جوابك حين تقف
أمامه فيسألك: "يا عبدي، ألم أصح جسدك، ألم أطعمك وأروك من الماء البارد" ما حيلتك
حين يقررك بذنوبك فتراها في صحيفتك لم تغادر منها شيئاً؟! فوالله إن ذل ذلك الموقف
وخجله لهو عذاب في حد ذاته، فكيف بجهنم أعاذني الله وإياك؟ لكني أزفها إليك بشرى من
لسان من لا ينطق عن الهوى حتى لا تقنط من رحمة ربك -سبحانه-، فإنه مع ذلك كله يضع
كنفه على عبده فإذا قرره بذنوبه قال له: "يا عبدي سترتها عليك في الدنيا وأنا
أغفرها لك اليوم".
فهل لك أخي أن تراجع النفس قبل أن يضيق النفس، وتعود إلى
ربك قبل أن يختم على قلبك: {كَلَّا
إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ
الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ
الْمَسَاقُ} [القيامة: 26-30].
وفقني الله
وإياكم لما يحب ويرضى.
وصلى الله
وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .