الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده ، وبعد:
تحرير محلّ النزاع:
قبل الدخول في المسألة أذكر أنها تتضمن مواطن اتفاقٍ ينبغي ذكرها ليتحرر محل النزاع فيها:
فأولاً: الوعد بشيءٍ محرّم لا يجوز الوفاء به إجماعاً.
وثانياً: الوعد بشيءٍ واجب على الواعد يجب عليه الوفاء به إجماعاً.
وثالثاً: من وعد بأمرٍ مباح فلا خلاف أنه يستحبّ الوفاء به(2).
رابعاً: محلُّ النزاع في وجوب الوفاء بوعدٍ على أمرٍ مباح ، فهل يُلزم به ديانةً ، وهل يمكن أن يُلزم به قضاءً؟(3).
المسألة الأولى: حكم الإلزام بالوعد ديانةً:
اختلف أهل العلم في حكم الوفاء بالوعد ـ بالمعروف ـ ديانةً على قولين:
القول الأول:
أن الوفاء بالوعد مستحبّ وليس بواجب ديانةً ، وهو قول الحنفيّة(4)، والشافعيّة(5)، والحنابلة(6)، والظاهريّة(7)، والمالكيّة(فيما إذا كان الوعد مجرداً)(8).
واستدلوا بأدلةٍ أقواها ما يلي:
الدليل الأول:حديث عطاء بن يسار ـ مرسلاً ـ أن رجلاً قال لرسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أكذب لامرأتي؟ فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: لا خير في الكذب ، فقال: أفأعدها ، وأقول لها؟ فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: لا جناح عليك(9).
وجه الدلالة: أن الحديث يدلّ على أنه لا يجب الوفاء بالوعد ، إذ سؤاله عن الكذب ونهي النبي _صلى الله عليه وسلم_ عنه ، ثم سؤاله عن الوعد يدل على أنه يريد السؤال عن إخلاف الوعد فأجابه النبي _صلى الله عليه وسلم_ بنفي الحرج عنه(10).
نوقش: بأن الحديث مرسل فلا يثبت به حجة.
وعلى التسليم بكونه حجة فهو مخصوص بالعلاقة بين الزوجين وقد رخص النبي _صلى الله عليه وسلم_ بالكذب فيه ومنه إخلاف الوعد(11).
الدليل الثاني: أن النبيّ _صلى الله عليه وسلم_ قال:"إذا وعد الرجل أخاه ومن نيّته أن يفي فلم يفِ ولم يجئْ للميعاد فلا إثم عليه" (12).
وجه الدلالة: ظاهرٌ منه أنّ النبيّ _صلى الله عليه وسلم_ رفع الإثم عن مُخْلف الوعد ولو كان الوفاء بالوعد واجباً لما قال ذلك.
نوقش: بأن الحديث ضعيف كما في تخريجه؛ فلا حجة فيه.
الدليل الثالث: أن المتبرع لا يلزمه إتمام تبرعه قبل قبضه ، فمن وهب شخصاً شيئاً ثم رجع فيه قبل قبضه فله ذلك ؛فإذا كان التبرع لا يلزم قبل قبضه فمن باب أولى أن لا يلزم الوعد بالتبرع(13).
نوقش:بأن الكلام ليس في إتمام التبرع المجرّد عن وعد ، بل الخلاف في حكم الوفاء بالوعد ، وعليه فالتبرع الناشئ عن وعد يجب الوفاء به وإتمامه ولا يجوز الرجوع فيه(14).
القول الثاني: أن الوفاء بالوعد واجب بحيث يحرم إخلافه بلا عذر ، وهو وجهٌ عند الحنابلة(15)، اختاره شيخ الإسلام ابن تيميّة(16)، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي(17).
واستدلوا بأدّلة أكتفي بأقواها وهي:
الدليل الأول: قوله _تعالى_:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ" (الصف:2)
وجه الدلالة:ذمُّ الله _تبارك وتعالى_ لمن يقول ما لا يفعل ؛إذْ أخبر _سبحانه_ أنه يمقت ذلك ، والمقت أعظم البغض ، ولا يكون مثل ذلك إلا على ترك واجب أو فعل محرم ، وإخلاف الوعد من قبيل هذا فيشمله الوعيد(18).
نوقش : بأنّ المراد بالآية الأمور الواجبة كالجهاد والزكاة وأداء الحقوق(19).
ويمكن أن يجاب: بأن الأصل في الآية الإطلاق والعموم.
الدليل الثاني:قوله _صلى الله عليه وسلم_:"آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان"(20).
وجه الدلالة:أن النبيّ _صلى الله عليه وسلم_ نصّ على أنّ إخلاف الوعد علامةٌ على النفاق ، مما يدلّ بلا ريب على أن الوفاء به واجب ، وإخلافه محرّم(21).
نوقش: بأن الحديث خاصٌّ بمن وعد بشيءٍ واجبٍ عليه فأخلف وليس الحديث على إطلاقه بدليل أنّ من وعد بمحرّم لا يجب عليه الوفاء به، بل لا يجوز له الوفاء به(22).
يمكن أن يناقش: بأن كون الوعد بالحرام لا يجوز الوفاء به مُسلّم ، وهو قطعاً لم يكن داخلاً في مراد النبيّ _صلى الله عليه وسلم_ أصلاً حتى يقال بأن الحديث دخله التخصيص ؛إذْ هناك فرقٌ بين العمومات التي أريد بها الخصوص وبين العمومات التي دخلها التخصيص ، وعليه فيكون داخلاً في عموم الحديث الوعد بشيءٍ واجب والوعد بشيءٍ لم يجب.
الترجيح:
يظهر لي رجحان القول الثاني وهو القول بوجوب الوفاء بالوعد ديانةً ، وهو الذي تدلّ عليه ظواهر الأدلة، وقد تركت الإسهاب فيها مخافة الطول.
وقد أخذ مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بهذا القول في دورته الخامسة(23).
المسألة الثانية: حكم الإلزام بالوعد قضاءً:
في المسألة السابقة كان الحديث عن الإلزام بالوعد بالمعروف ديانةً ، وفيه تبيّن أن الراجح أنه يلزم ديانةً ، فهل موجِبُ ذلك الإلزام به قضاءً؟
أولاً: الإلزام بالوعد قضاءً إذا كان وعداً بمعروف:
المراد بهذه المسألة: الوعد الْمُنْشَؤُ تبرعاً في غير معاوضة.
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أربعة أقوال:
القول الأول:
الإلزام بذلك قضاءً بإطلاق ، وهو قولٌ عند المالكيّة(24).
واستدلوا: بما سبق الاستدلال به من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالوعد ديانةً ؛إذ الأصل أن ما وجب ديانةً وجب على الحاكم الإلزام به قضاءً لكونه مأموراً بإقامة شرع الله(25).