حكم الإستشهاد
بالشعر
إن الحاجة ملحة الآن لتطوير الخطاب الدينى بالبعد عن التخويف
والوعيد للمؤمنين وترويح النفوس بالبشريات واللطائف وتحبيب العباد فى ربهم والأخذ
بأيديهم إليه بالمحبة والمودة لا بجرهم إليه بالتخويف والترهيب والشدة وإنا إذ
استشهدنا بالشعر هنا فى غالب البشريات فإنى أنتهزها فرصة فى تلك المقدمة لكى أورد
تحليلاً مختصرا عن أن
الإستدلال بالشعر كان معمولا به أيام النبى والصحابة
والتابعين بل وكان الشعر سلاحاً تستخدمه الدعوة الإسلامية كما أحب أن أشير إلى أن
الغناء فى عصرنا قد انتشر بين الشباب ذكوراً وإناثاً وذهب بعيداً فى تهييج الغرائز
وشغل أوقاتهم وقد انتشرت الأجهزة الحديثة وأدوات الإستماع لها ومشاهدتها مصورة
وتخزينها واسترجاعها أو مباشرة على النت ورخص ثمن تلك الأجهزة فصارت الأغانى لهم
كالماء والهواء ولذا فإننا ننتهز الفرصة لنحبِّب شبابنا فيما يشدُّ مشاعرهم
وعواطفهم الجياشة من كريم الشعر والأناشيد الدينية والأخلاقية أو الطيبة والمهذبة
والتى تصلح للكثير من المناسبات
ونحن نحاول ما أمكننا أن نبين لهم جمال
وسماحة الدين فلا يكون الدين فى نظرهم جافاً منفراً فينصرفون عنه بل هيناً وسهلاً
ليناً جذاباً للعقول والقلوب كما جاء به حبيب القلوب
فأقول وبالله التوفيق:
ونبدأ من عند من لاينطق عن الهوى من عند الحبيب المصطفى ونبدأ بالسؤال الشهير والذى
سألته الصحابة لأم المؤمنين عائشة : هل كان رسول الله
يتمثُّل (يستدل) بشىء من الشعر؟ قالت{كَانَ إذا
استراث ( استبطأ) الخبر يَتَمَثَّلُ بِشَعْرِ ابنِ
رَوَاحَةَ وَيَقُولُ وَيأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مِنَ لَمْ تُزَوِّدِ } [1]وفى
رواية: غير أنه كان يتمثل ويجعل أوله آخره فغالباً كان يقول:
ويأتيك من لم تزود بالأخبار فيقول له أبو بكر: ليس هكذا يارسول الله فيقول : أنا
لستُ بشاعر وقال مرَّة: كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً فقال الصديق: إنما قال
الشاعر كذا فأعاده كالأول فقال الصديق: أشهد أنك رسول الله لقول الله{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ} [2]
وورد أنه قال وهو على المنبر{ما تكلمت العرب بكلمة أصدق من
هذا: ألا كل شيء ما خلا الله باطل} [3]
ولما سئل عن الشعر كما روت
السيدة عائشة أيضاً أجاب{الشعْرُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلاَمِ
فَحُسْنُهُ كَحُسْنِ الْكَلاَمِ وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِ الْكَلاَمِ} [4]وكان
لا يعيب على أصحابه تناشد الشعر كيف ذلك وما الدليل؟ فقد روى عن سيدنا جابر بن سمرة
قوله{جالست النبي أكثر من مائة مرة في المسجد يجلس مع أصحابه
يتناشدون الشعر وربما تذاكروا أمر الجاهلية فيتبسم النبي معهم} [5] بل وكان يظهر إعجابه إذا سمع ما يرضيه وأحيانا يردِّد شيئاً منه
فقد أنشده أعشى بني مازن أبياتاً في ذمِّ قبيح خُلُق النساء آخرها "وهن شرُّ غالب
لمن غلب" فجعل يقول[6] "وهن شرُّ غالب لمن غلب" وكان إذا نمى إعجابه بحكمة
الشعر وبلاغته فكثيرا ما كان يقول لأصحابه{إِنَّ مِنَ
الْبَيَانِ كَالسحْرِ وَإِنَّ مِنَ الشعْرِ كَالْحِكَمِ
}[7]
وأحياناً كان يستنشدهم الشعر فقد روى سيدنا الشريد أنَّه أردفه
خلفه ثم استنشده من شعر أمية بن أبي الصلت فلم يزل النبى يقول له:{هيه}أى زدنى حتى
أنشده مائة بيت فقال{لقد كاد أن يسلم في شعره}[8]
وأيضاً لما أتاه سيدنا العلاء الحضرمى استنشده مما يحفظ من الشعر ثم سأله عمَّا معه
من القرآن وكذا فعل مع غير واحد ممن يحسنون الشعر ومنهم الخنساء المشهورة كانت
تُنشِد رسول الله شعرَها فيعجبُهُ ويقول{ هِيهِ يا خُناسُ
ويومىءُ بيده} [9]دلالة على الإعجاب بشعرها
وهذا لا يخالف ما أجابته
السيدة عائشة لما سئلت: هل كان رسول الله يُتَسَامَعُ
عِندَهُ الشِّعْرُ؟ قالت{كانَ أَبْغَضَ الحديثِ إِليْه} [10] لأنه كما قال
صاحب السيرة الحلبية وكثير من العلماء لأن المراد بالشعر الذي يحبه ما كان مشتملاً
على حكمة أو وصف من مكارم الأخلاق والذي يبغضه ما كان مشتملاً على ما فيه هجنة أو
هجو ونحوها من المحارم او اللغو فكانوا يؤكدون أن مجالسه لم تكن بمجالس الشعر
والشعراء التى اعتادها العرب عند كبرائهم وسادتهم
بل وكان يغيِّر لهم بعض
الألفاظ إذا كانت لا تليق مثل ما أنشد أبى بن كعب أمامه فى مسجده فلما قال: "نقاتل عن جذمنا كل قحمة"، فصوَّبه النبى قائلاً{لا تقل نقاتل
عن جذمنا ولكن نقاتل عن ديننا} [11] لأنها كلمة فيها عصبية وكان ينصح بالشعر
أو التغنى به فى مواضع استحبابه فعندما زفَّت البنت الكبرى لأسعد بن زرارة- وكانت
بنات سعد قد تربين فى حجر النبى حتى كبرن- من بيته أمرهن أن يغنين لها "أتيناكم
.أتيناكم" وسيأتى ذكر الأغنية وكان أيضاً يعاتب عتابا لطيفا على ترك التغنى بالشعر
عند الحاجة إليه كما فى الأفراح للنساء
فذات مرة سأل زوجته السيدة عائشة عن
يتيمة كانت عندها فأخبرته أنهم أهدوها إلى زوجها من الأنصار فقال لها{فَهَلْ بَعَثْتُمْ مَعَهَا جَارِيَةً تَضْرِبُ بالدُّفِّ
وتُغَنِّي؟ قالت: تقول ماذا؟ قال: تقُولُ: أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ /
فَحَيُّونَا نُحَيِّكُمْ .. لَوْلاَ الذَّهَبُ اَلاحْمَـرُ / مَا حَلَّتْ
بِوَادِيْكُمْ .. لَوْلا الحِنْطَةُ السَّمْرَاءُ / مَا سَمِنَتْ عَذَارِيْكُمْ }
[12]وفى رواية زاد{ فإن الأنصار قوم فيهم
غزلٌ}
وكان يأمر من يحسنون الشعر من أصحابه بالرد على من يهجونهم روى
عمار بن ياسر أنه قال: لما هجانا المشركون شكونا إلي رسول
الله فقال لهم{قولوا لهم كما يقولون لكم} وزاد عمار قائلاً{فإن كنَّا لنعلمه إماءنا
بالمدينة } [13]
وكلنا يعرف دور حسان بن ثابت شاعر الرسول فى نصرة
دين الله والزود عن رسوله وعن أعراضهم وكان يحثُّه ويشجعه ويقول{أهجهم أنت فسيعينك روح القدس }وكان يقول له أيضاً{إذا حارب أصحابي بالسلاح فحارب أنت باللسان} [14] وسأل سيدنا كعب بن مالك رسول الله: ماذا ترى في الشعر؟ فقال{إن
المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأنما تنضحونهم بالنبل}
[15]وكانوا يأتون إليه فينشدون فى الثناء على الله وفى مدحه كما ورد عن
الأسود بن سريع قال: قلت لرسول: إني مدحت الله مدحة ومدحتك
قال عليه أفضل الصلاة والسلام{هات وابدأ بمدحة الله عز وجل}
[16]
وأما غير النبي من الصحابة والتابعين فكان أكثرهم يتمثلون بالشعر وهذا
أمر شائع مشهور والدلائل فيه أكثر من أن تحصى وسنأتى منها بمقتطفات يسيرةكان ابن
عباس يحثُّ الناس على تعلم الشعر الجاهلى لقوته وفصاحته ويقول للناس كثيراً وفى
مجالس عديدة{إذا سألتم عن شيء من غريب القرآن فالتمسوه في
الشعر فإن الشعر ديوان العرب} [17]و يقول أيضاً{الشعر
ديوان العرب وأول علومهم}وكان أبو بكر يقول الشعر وكان عالماً به ومما تمثل
به وهو على المنبر لما أراد أن يثبت للأنصار أنه يذكر أفضالهم على إخوانهم
المهاجرين تمثل قول الغنوى:
جزى اللـه عنا جعفرا حين أزلقت
بنا رجلنا في الواطئين وزلت
أبو أن يملُّونا ولو أن أمُّنا تلاقي الذي يلقون
منَّا لملَّت
هم أنزلونا في ظلال بيوتهم ظلال بيوت أدفأت
وأكنَّت
وأما عمر فقد عرف عنه أنه كان لا ينزل به أمر ألا تمثل فيه
بشعر وكثيرا ما كانت أصحابه تنشد أصحابه شعر العظة والحكمة فيسأل من قائله؟وروى عنه
[18] أن قوما أتوه وهو أمير للمؤمنين وأخبروه إن إماما لهم شابا إذا صلى لا يقوم من
مجلسه حتى يتغنى بقصيدة فقال عمر: فلنذهب إليه فإنا إن دعوناه يظن أنا قد غضضنا
أمره فأتوه فقال: بلغني عنك أمر ساءني بلغنى أنك تتغنى قال: فإنها موعظة أعظ بها
نفسي قال عمر: قل إن كان كلاما حسنا قلت معك وإن يك قبيحا نهيتك عنه فأنشد الرجل
قائلاً:
وفؤادي كلما عاتبته عاد في اللذات يبغي
نصبي
لاأراه الدهر إلا لاهيا في تماديه فقد برح بي
يا قرين السوء ماهذا الصبا
فني العمر كذا باللعب
وشباب بان مني ومضى قبل أن أقضي منه أربي
ما أرجي بعده
إلا الفنا طبق الشيب على مطلبي
ويح نفسي لا أراها أبدا في جميل لا ولا في
أدب
نفس لا كنت ولاكان الهوى إتقي الله وخافي وارهبي
فبكى عمر ثم
قال هكذا فليغنِّ كل من غنى قال عمر وأنا أقول:
نفس لا كنت
ولا كان الهوى رابضي الموت وخافي وارهبي