تبدأ القصة عند ولادتي ، فكنت الابن الوحيد في أسرة شديدة الفقر فلم يكن لدينا من الطعام ما يكفينا .... وإذا وجدنا في يوم من الأيام بعضا ًمن الأرز لنأكله ويسد جوعنا : كانت أمي تعطيني نصيبها .. وبينما كانت تحوِّل الأرز من طبقها إلى طبقي كانت تقول : يا ولدي تناول هذا الأرز ، فأنا لست جائعة ..
وكانت هذه كذبتها الأولى
وعندما كبرت أنا شيئا قليلا كانت أمي تنتهي من شئون المنزل
وتذهب للصيد في نهر صغير بجوار منزلنا ،
وكان عندها أمل أن أتناول سمكة قد تساعدني على أن أتغذى وأنمو ،
وفي مرة من المرات استطاعت بفضل الله أن تصطاد سمكتين ،
أسرعت إلى البيت وأعدت الغذاء ووضعت السمكتين أمامي
فبدأت أنا أتناول السمكة الأولى شيئا فشيئا ،
وكانت أمي تتناول ما يتبقى من اللحم حول العظام والشوك ،
فاهتز قلبي لذلك ،
وضعت السمكة الأخرى أمامها لتأكلها ، فأعادتها أمامي فورا وقالت :
يا ولدي تناول هذه السمكة أيضا ، ألا تعرف أني لا أحب السمك ...
وكانت هذه كذبتها الثانية
وعندما كبرت كان لابد أن ألتحق بالمدرسة ،
ولم يكن معنا من المال ما يكفي مصروفات الدراسة ،
ذهبت أمي إلى السوق واتفقت مع موظف بأحد محال الملابس
أن تقوم هي بتسويق البضاعة بأن تدور على المنازل
وتعرض الملابس على السيدات ،
وفي ليلة شتاء ممطرة ، تأخرت أمي في العمل وكنت أنتظرها بالمنزل ، فخرجت أبحث عنها في الشوارع المجاورة ،
ووجدتها تحمل البضائع وتطرق أبواب البيوت ،
فناديتها : أمي ، هيا نعود إلى المنزل فالوقت متأخر
والبرد شديد وبإمكانك أن تواصلي العمل في الصباح ،
فابتسمت أمي وقالت لي : يا ولدي.. أنا لست مرهقة ..
وكانت هذه كذبتها الثالثة
وفي يوم كان اختبار آخر العام بالمدرسة ،
أصرت أمي على الذهاب معي ،
ودخلت أنا ووقفت هي تنتظر خروجي في حرارة الشمس المحرقة ،
وعندما دق الجرس وانتهى الامتحان خرجت لها
فاحتضنتني بقوة ودفء وبشرتني بالتوفيق من الله تعالى ،
ووجدت معها كوبا فيه مشروب كانت قد اشترته لي كي أتناوله عند خروجي ، فشربته من شدة العطش حتى ارتويت ،
بالرغم من أن احتضان أمي لي : كان أكثر بردا وسلاما ،
وفجأة نظرت إلى وجهها فوجدت العرق يتصبب منه ،
فأعطيتها الكوب على الفور وقلت لها : اشربي يا أمي ،
فردت : يا ولدي اشرب أنت ، أنا لست عطشانة ..
وكانت هذه كذبتها الرابعة
وبعد وفاة أبي كان على أمي أن تعيش حياة الأم الأرملة الوحيدة ،
وأصبحت مسؤولية البيت تقع عليها وحدها ،
ويجب عليها أن توفر جميع الاحتياجات ،
فأصبحت الحياة أكثر تعقيدا وصرنا نعاني الجوع ،
كان عمي رجلا طيبا وكان يسكن بجانبنا ويرسل لنا ما نسد به جوعنا ، وعندما رأى الجيران حالتنا تتدهور من سيء إلى أسوأ ،
نصحوا أمي بأن تتزوج رجلا ينفق علينا فهي لازالت صغيرة ،
ولكن أمي رفضت الزواج قائلة : أنا لست بحاجة إلى الحب ..
وكانت هذه كذبتها الخامسة
************************
وبعدما انتهيت من دراستي وتخرجت من الجامعة ،
حصلت على وظيفة إلى حد ما جيدة ،
واعتقدت أن هذا هو الوقت المناسب لكي تستريح أمي
وتترك لي مسؤولية الإنفاق على المنزل ،
وكانت في ذلك الوقت لم يعد لديها من الصحة
ما يعينها على أن تطوف بالمنازل ،
فكانت تفرش فرشا في السوق وتبيع الخضروات كل صباح ،
فلما رفضت أن تترك العمل خصصت لها جزءا من راتبي ،
فرفضت أن تأخذه قائلة : يا ولدي احتفظ بمالك ،
إن معي من المال ما يكفيني ..
وكانت هذه كذبتها السادسة
وبجانب عملي واصلت دراستي كي أحصل على درجة الماجيستير ،
وبالفعل نجحت وارتفع راتبي ،
ومنحتني الشركة الألمانية التي أعمل بها الفرصة
للعمل بالفرع الرئيسي لها بألمانيا ،
فشعرت بسعادة بالغة ،
وبدأت أحلم ببداية جديدة وحياة سعيدة ،
وبعدما سافرت وهيأت الظروف ،
اتصلت بأمي أدعوها لكي تأتي للإقامة معي ،
ولكنها لم تحب أن تضايقني
وقالت : يا ولدي .. أنا لست معتادة على المعيشة المترفة ...
وكانت هذه كذبتها السابعة
كبرت أمي وأصبحت في سن الشيخوخة ،
وأصابها مرض السرطان اللعين ،
وكان يجب أن يكون بجانبها من يمرضها ،
ولكن ماذا أفعل فبيني وبين أمي الحبيبة بلاد ،
تركت كل شيء وذهبت لزيارتها في منزلنا ،
فوجدتها طريحة الفراش بعد إجراء العملية ،
عندما رأتني حاولت أمي أن تبتسم لي
ولكن قلبي كان يحترق لأنها كانت هزيلة جدا وضعيفة ،
ليست أمي التي أعرفها ،
انهمرت الدموع من عيني ولكن أمي حاولت أن تواسيني
فقالت : لا تبكي يا ولدي فأنا لا أشعر بالألم ...
وكانت هذه كذبتها الثامنة
وبعدما قالت لي ذلك ، أغلقت عينيها ، فلم تفتحهما بعدها أبدا ...
( من روائع مصطفى صادق الرافعى )
إلى كل من ينعم بوجود أمه في حياته :
حافظ على هذه النعمة قبل أن تحزن على فقدانها ...
وإلى كل من فقد أمه الحبيبة :
تذكر دائما كم تعبت من أجلك فلا تنساها من دعائك
رحمك الله .