هو أحدُ الأصغرين ,
وموطنُ الأسرار , ومجمع الضغائن , ومنبعُ الحب , ومستقرُّ الكراهية , وهو المضغةُ
التي إذا صلحت صلح الجسدُ كله , وإذا فسدت فسد الجسدُ
كلُّه.... إنه القلبُ , ولله درهُ ! ويا لعجيبِ
أمره ! فهو سر من أسرار الله , وآيةٌ من آيات عظمته , يترفع عن الضغائن والأحقاد
والغل والحسد, فيسمو بصاحبه إلى مصاف النقاء والطهر والصفاء...ويوغل في الكراهية
والشحناء والتباغض , فيَهْوي بصاحبه إلى حضيض الغل والغش والحسد والقطيعة...
وأجمل شيء
في الدنيا ـ كما نعلم جميعاً ـ أن يعيش المرءُ ذا قلبٍ صافٍ وصدرٍ سليمٍ يُحب الخير
لجميع الناس , ولا يحمل في قلبه حقداً على أحد أو حسدا لأي إنسانٍ (ففي صلاح القلوب
صلاحُ الأجسام, وفي فسادها فسادُ الأجسام , وفسادُ الأجسام يترتب عليه فسادُ
الإنسان, إذ ليس السقيم كالسليم, ولا المريض كالمعافى , فإذا كانت أمراضُ الأجساد
قد تُفَوِّتُ حياة الدنيا , فإن أمراض القلوب تفوت حياة الآخرة , وتفسد حياة الدنيا
) (1).
وما أجمل أن يعيش الناس حياةً ملؤُها الحب والرحمة والعطف
والشفقة, وأن يرِدوا جميعاً بحارَ التآخي والألفة والوداد !...فأفضل الناس على
الإطلاق كلُّ مخمومِ القلب صدوق اللسان , ولمعرفة مخموم القلب إليك الحديثَ الشريفَ
التالي :
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرو قَالَ : قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ
النَّاسِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ ,
قَالُوا : صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ ؟ قَالَ : هُوَ
التَّقِيُّ النَّقِيُّ لا إِثْمَ فِيهِ وَلا بَغْيَ وَلا غِلَّ وَلا حَسَدَ . (2)
وإذا أردنا أن تصفوَ قلوبُنا وتسلمَ صدورنا فعلينا أن نبتعد
عن كل ما يعكر صفوها, ويجعلها مليئةً بالشوائب , فلا نستمعُ لنمّام , ولا ننقل
وِشايةً , وإن جاءنا فاسقٌ بنبأٍ فعلينا أن نتبيَّن , ولنتأملْ معاً في هذا الكلام
النبوي الرائع حيث يقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكرام : (( لا يُبَلِّغْنِي
أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ
إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ )) (3)
وفي القرآن الكريم نرى أن من
دعاء المؤمنين أنْ لا يجعلَ الله في قلوبهم غلاً للذين آمنوا , قال تعالى :
« رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ
سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غلا لِلَّذِينَ آَمَنُوا
رَبَّنَا إِنَّكَ رؤوفٌ رَحِيمٌ » . (4)
وعلينا كذلك أن نبتعد عن
الحسد , لأن الحسد داءُ الأمم وهو منغِّص الحياة, ومنكِّدُ العيش, حيث يغلي قلبُ
الحاسد غليانَ المرجل , ويكاد قلبه يتميَّز من الغيظ, ومحسودُه يرفُل في أثوابٍ من
النعيم والسكينة والحبور , فحريٌّ بنا أن نطهِّر قلوبَنا من الغل والحسد , ورحم
الله من قال :
طهِّـر فـؤادَك مـن غـلٍّ ومـن حسدِ واسـلم بنفسك لا تمكُرْ
ولا تَكِدِ
واترك أذى الناس وابذُل ما
استطعت ندىً واحـذرْ أذاهم ولا تركَن إلى أحد(5)
وحتى تصفوَ قلوبُنا وتسلم صدورنا علينا أن نبتعد عن الغش
لأن من غشنا فليس منا , وأن نبتعد عن المكرِ السيء فلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السيء إلا
بِأَهْلِهِ , وأن نبتعد عن سوء الظن لأن كثيراً من الظن إثم , ولأنّ الظن أكذبُ
الحديث كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه, (ولا تكونُ الظنون
السيئة إلا من القلوب التي لا تخلو من السيئات فتطلب في غيرها العثرات) , كما قيل
:
إذا ساء فعلُ المرء ساءت
ظنونُهُ وصـدَّق ما يعـتادُهُ مـن تَوَهُّمِ
وعـادى مُـحبيه بقول عدوِّه وأصبحَ في ليلٍ من الـشك مظلمِ
(6)
وحتى تصفوَ قلوبنا علينا أن
نترك التباغض , وأنْ لا يهجر أحدُنا أخاه فوق ثلاثٍ , فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
((لا تَبَاغَضُوا وَلا تَحَاسَدُوا وَلا تَدَابَرُوا ,
وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا , وَلا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُهَاجِرَ
أَخَاهُ فَوْقَ ثلاث لَيَالٍ)) (7)
وحتى تصفو قلوبُنا ونتحاببَ
فيما بيننا علينا أن نُفْشِيَ السلامَ بيننا بكثرةٍ لأن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قَالَ :
(( لاَ تَدْخُلُون الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ
تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا.أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شيء إِذَا فَعَلْتُمُوهُ
تَحَابَبْتُمْ ؟! أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ )) (8)
ختاماً أيها القارئُ الكريم
:ما هذه المقالةُ إلا دعوةٌ قلبية ٌإلى صفاء القلوب , وسلامة الصدور , والتآخي
والتحابب ....فشتّانَ بين القلب الذي يكون أبيضَ كاللُّجين , ونقيّاً كماء السماء ,
وبين القلب الذي يتراكم عليه الرَّانُ, وتُنكَتُ فيه نكتةٌ سوداءُ تلو الأخرى من
الكراهية والتباغض ليتحولَ إلى ظلماتٍ بعضُها فوق بعض...
ويقيناً إن من أعظم نعم الله على الإنسان أن يكونَ ذا قلبٍ
تقيّ , وفؤاد نقيٍّ, لا يعرف حسداً ولاشحناء وغِلا .... ولأن الغلَّ يُعكر صفو
الحياة في الدنيا , نرى أن الله نزعه من قلوب أهل الجنة حتى لا يحسدَ أحدٌ أحداً ,
وحتى يعيشوا خالدين متحابِّين , على سرُرٍ متقابلين , كما قال تعالى :
« وَنَزَعْنَا مَا فِي
صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ»