ربما كانت صدفة , ولكنه كان آخر يوم في العام , في طريقي الى عملي اقف
بانتظار الباص , توقفت حافلة كبيرة فصعدت من الباب الامامي لأجد الحافلة
ممتلئة ولا يوجد فيها أي مقعد شاغرفهيأت نفسي للبقاء واقفا كما يحدث في
احيان كثيرة معي ومع العديد من الركاب ففاجأني احد الركاب الشباب وكان
جالسا في المقاعد الخلفية بالوقوف ودعوتي الى الجلوس مكانه ولم يترك لي
مجالا للرفض برغم تمنعي .. جلست في المقعد وقد اختلطت مشاعري بين الثناء
على ذلك الشاب وبين كونها المرة الاولى التي يقوم فيها احدهم ليجلسني مكانه
كما كنت افعل دائما كلما وجدت رجلا كبيرا يقف في الباص وانا جالس.. هل
كبرت وهرمت دون ان ادري .. ياه ما اصعب المرة الاولى.. وماذا تظن هل ما زلت
شابا وقد طرقت الاربعينيات , ولكني غارق طوال الوقت بالتفكير في المستقبل
وآفاقه وفي الاولاد ودراستهم وفي البحث عن مصادر دخل افضل وغارق في
حسابات شتى .. هل يمضي الانسان عمره وتنقضي السنوات وهو لايشعر.. كم مرة
سمعت من كبار السن ان الدنيا تافهة ولا تستحق العناء وان العمر مهما طال
فانه كمن دخل من باب وخرج من باب آخر وكم تكلم الحكماء والفلاسفة في
مؤلفاتهم عن هوان الدنيا وحقارتها وكم افاض العلماء في التحذير من
الاغترار بالدنيا .. ها قد جاءك اليوم من وضعك في مواجهة الحقيقة المرة ,
يوشك الامر على النهاية فلولا ان علامات الهرم قد بدت عليك واضحة لما قام
ذلك الشاب المحترم واجلسك مكانه ولو تأخر قليلا لنهض غيره واجلسك ايها
الهرم ..
اذن عما قريب ستغادر هذه الدنيا الملعونة وسينزلونك في تلك الحفرة
الضيقة , ستفارق الاهل و الاحباب والاصحاب , كم مرة مشيت في جنازة وكم مرة
حملت نعشا وساعدت في انزال احدهم الى القبر ثم لم يخطر ببالك انك تقترب من
ذلك المصير .. ها قد بدأ العد التنازلي الفعلي ولن تعود عقارب الساعة الى
الوراء , لقد ولّى عهد الشباب واقتربت النهاية الحتمية سريعة خاطفة .. في
غمرة التفكير والاسى على العمر الذي مر كالسهم سريعا تنبهت الى رائحة
عفنة خانقة تزكم انفي وتبين ان مصدرها المقعد المجاور .. عامل اسيوي لم
يمس الماء بدنه منذ سنوات تنبعث منه تلك الرائحة التي تبعث على الغثيان ,
هكذا اذن لم يكن موقف الشاب الذي اجلسني مكانه ايثارا و شهامة بل هروبا
ونذالة .. لقد شعرت بانني خروف
سحقا ما الذي فعله بي ذلك الشاب اللعين, بل ما الذي فعلته بنفسي !!