الحمد لله العفو الكريم ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، جعل الحياة الدنيا داراً للابتلاء والاختبار ، ومحلاً للعمل والاعتبار ، وجعل الآخرة دارين ، داراً لأهل كرامته وقربه من المتقين الأبرار ، وداراً لأهل غضبه وسخطه من الكفار والفجار ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المختار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الأخيار ، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار . أما بعد .
يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور .
عباد الله .. أسألكم وأسأل نفسيَ الخاطئة: لماذا فسدت أحوالنا ، وكثرت ذنوبنا ، وقست قلوبنا ، وضعفت نفوسنا؟ .
ذلكم أيها الأحبة .. لما نقص إيماننا بمعادنا ، وضعف يقيننا بلقاء ربنا ، وغلب رجاؤنا على خوفنا ، فآثرنا الدنيا على الأخرى ، ونسينا الطامة الكبرى .. يوم يبعثر ما في القبور ، ويحصل ما في الصدور .. ويعلم المفرط أنه ما كان إلا في غرور .
عباد الله .. الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان .. وسبب لرسوخ القلب في العرفان .. وكثيرًا ما يَقْرِن الله تعالى بين الإيمانِ به والإيمانِ باليوم الآخر ، (ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) ، (يؤمنون بالله واليوم الآخر) ، (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) .
ذلكم أن من لم يؤمن بالمآب ، والجزاء والحساب ، والثواب والعقاب ، فلا يمكن أن يؤمن بالله رب الأرباب .
عباد الله .. لا تغرنكم الحياة الدنيا ، فـإنه (كل من عليها فان) ، كلُّ حيٍ سيفنى ، وكلُّ جديدٍ سيبلى .. وما هي إلا لحظةٌ واحدة ، تخرج فيها الروح إلى بارئها ، فإذا العبد في عداد الأموات .
ذهب العمر وفات .. يا أسير الشهوات .. ومضى وقتك في سهو ولهو وسبات .. بينما أنت على غيك حتى قيل مات .
نعم والله ، ذهبت الشهوات ، ومضت الملهيات ، وبقيت التبعات .. وطويت صحيفة العبد على الحسنات أو السيئات .
والموت ليس نهاية الحياة .. بل هو بداية رحلة طويلة إلى الدار الآخرة .. ومن مات قامت قيامته .
فإذا مات العبد ، نزل أولَ منازل الآخرة ، القبر ، روضةٌ من رياض الجنة أو حفرةٌُ من حفر النار .. ينزل فيها العبد وحيداً فريداً لا أنيس له ولا رفيق إلا عمله الصالح .
ولا تزال الأرض تستودع ما يُدفَن فيها من الأموات ، حتى يشاءَ الله أن تقوم الساعة ، فيأمرَ إسرافيلَ عليه السلامُ بالنفخ في الصور ، فإذا نَفَخَ إسرافيلُ في الصور النفخةَ الأولى نفخةَ الصعق ، صَعِقَ الناس وماتوا ، وانتهت الدنيا بأكملها .. كل ما تراه سيفنى .. لن تبقى القوى البشرية ، ولا قدراتهم التكنلوجية ، ولا وكالاتهم الفضائية ، ولا مراكبهم وأقمارهم الصناعية .
حتى إذا مات الأحياء كلهم ، ولم يبق إلا الله جل جلاله ، نادى سبحانه:لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ .
فلا يجيبه أحد ، فيرد تعالى على نفسه: (لله الواحد القهار) .
أين ملوك الأرض؟ أين الجيوش الجرارة؟ أين الدول العظمى المتجبرة؟ لا شيء إلا الله .. (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) .
ويرسل الله المطر بين النفختين ، فيَنْبُتُ الناس من عَجْب الذَّنَب كما يَنْبُتُ البَقْل ، وكلُّ إنسان يفنى ولا يبقى منه إلا عَجْب الذَّنَب، وهو العظم الصلب المستدير الذي في أصل العَجُز والذَّنَب، إلا الأنبياء؛ فقد حرّم الله على الأرض أن تأكل أجسادهم .
فإذا نبتت أجساد الخلق ، نفخ إسرافيلُ في الصور النفخةَ الثانية ، نفخةَ البعث ، فتتطاير الأرواح وتعود إلى الأجساد ، فإذا هم قيام ينظرون ، ينفضون التراب عن رؤوسهم .
وأول من يبعث رسولنا صلى الله عليه وسلم ، وهو أول من تنشق عنه الأرض ، كما جاء في الصحيحين .
ثم يخرج الناس جميعًا من قبورهم حفاة عراة غُرْلاً أي: غير مختونين، فيحشرون على أرضٍ غيرِ هذه الأرض: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وبرزوا لله الواحد القهار) .
وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُحشر الناس يوم القيامة على أرضٍ بيضاءَ عَفْرَاءَ كقُرْصَة النَّقِي [يعني كالخبزة المصنوعة من الدقيق النقي] ليس فيها عَلَمٌ لأحد)) [أي علامة بناء أو أثر] .
ويجتمع الناس في ذلك الموقف العظيم على صعيد واحد ، فيغشاهم من الكرب ما يغشاهم، ويصيبهم الرعب والفزع، يشيب الولدان، وتشخص الأبصار، وتبلغ القلوب الحناجر.
الشمس كورت ، لُفّت وذهب ضوءها .. النجوم انكدرت وتناثرت .. الجبال نسفت وسيّرت فأصبحت كالقطن المنفوش .. العشار عطلت .. الأموال تُركت .. التجارات والعقارات والأسهم نُسيت .. السماء كشطت ومسحت وأزيلت .. البحار سجرت .. وإلى كتل من الجحيم تحولت ..