الـفـاجـعـة
قصة عجيبة ومفاجأة كبيرة مكانها عرصات القيامة وقتها عند وزن الأعمال صاحبها رجل من السابقين إلى الخيرات تذكر وهو في العرصات ما كان يعمل في الدنيا من الصالحات فتهللت أسارير وجهه وأخذ يستعرض ماضيه: أنا من المحافظين على الصلوات ومن المنفقين والمتصدقين وفدت إلى بيت الله مراراً ما بين حجة وعمرة لساني يلهج بالذكر فسُبحتي لا تفارق أناملي حسناتي كثيرة وكفت ميزاني راجحة .
نظر إلى سجلات أعماله وهي توزن فإذا هي كالجبال فازداد استبشاراً وفرحاً وتهللاً، لم يطل تهلله حتى انقلب ذلك الفرح إلى عبوس وخوف وهلع وذعر فالوجه يعلوه القتر وأعضاؤه لا تكاد تحمله فجثى على ركبتيه من شدة الهول، إنها الفاجعة لقد أبصر كل تلك الحسنات تتطاير أمام ناظريه لقد تحولت إلى هباء منثور فلم يبقى في كفة ميزانه شيء أخذ في الصياح والعويل يدعو بالويل والثبور ينادي بأعلى صوته أين صلاتي؟ أين زكاتي؟ أين حجي وعمرتي؟ أين ذكري وتسبيحي؟ يا حسرتي يا شقوتي يا ويلي يا ثبوري لماذا تبددت حسناتي؟
وفجأة يأتيه الرد كالصاعقة {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً}الفرقان14
نعم ذهبت لأنها لا أساس لها أشبه ببناء شامخ أبدع صاحبه في بنائه وتشيده وعني بألوانه وزخرفته يعجب الناظرين ويأسر الزائرين لكنه دون أساس أتت عليه ريح عاصف فسوته بالأرض .
فأعمالك أشبه ما تكون بهذا البيت لخلوها من أساس قبول الأعمال ألا وهو توحيد الله والإخلاص له: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}الكهف110
ألم تكن تدعو غير الله فمرة تتوسل وتستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم ومرة تنذر للولي الفلاني ومرة تطوف بالقبر الفلاني تطلب منه جلب النفع ودفع الضر ومرة تستغيث بمخلوق مثلك لتنجب زوجك أو ليشفي مريضك، فما تنفعك الحسنات وقد أخللت بأساس قبولها {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً}الفرقان23 لقد أحرقت كل أعمالك يوم أن أشرت بالله غيره فتحول ركام الحسنات إلى رماد فما يغني عنك الرماد إذا جاءته ريح عاصف {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ}إبراهيم18 .
زاد بكاؤه وعويله وأخذ يردد واحسرتاه واخيبتاه واخسارتاه: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}الزمر15
عندها تنكس منه الرأس وبدأ شريط الأمنيات يعرض أمام ناظريه يتمنى العودة إلى هذه الحياة ولكن هيهات هيهات: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ}السجدة12
وفي هذه الأثناء توضع الأغلال في عنقه ويوثق بالسلاسل فيجر بها إلى النار حتى يوقف عليها فيعاود الأمنية بالرجوع إلى الدنيا لينبذ الشرك وأهله ويأوي إلى كنف التوحيد ولكن هيهات هيهات {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}الأنعام27
فيرمى به في نار جهنم يسحب فيها على وجهه يقاسي صنفوف العذاب ولا حول ولا قوة إلا بالله: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ* يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} القمر 47ـ48 فيتقلب في العذاب وهو يلهج بأمنية العودة ليطيع الله ورسوله ويكون من الموحدين ولكن هيهات هيهات: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً* خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً* يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} الأحزاب 64ـ66
ألا ما أعظم الخسار أن يخلد المرء في دار البوار, جنبي الله وإياك أخي المسلم هذا المصير .
أخي لعل لي ولك في هذه القصة أعظم العبرة فنحن لا زلنا على قيد الحياة فهل نتدارك ما بقي من حياتنا للعودة إلى الله وإخلاص الأعمال له والبراءة من الشرك وأهله هل نعود إلى صفاء التوحيد ونقاء .
أخي الحبيب حذار حذار ثم حذار حذار ثم حذار حذار من غوائل الشرك إن كان الشيطان قد أوقعك في شيء من ذلك فبادر بالتوبة والعودة إلى جناب التوحيد (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ* وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ)
أخي إن هذه القصة التي عرضها القرآن لنا لهي رسالة إلى كل مسلم أن يصحح توحيده وينبذ الشرك وأهله ويفر من المخلوق إلى الخالق ويعلم أن جميع المخلوقين لا يملكون له من الله شيئاً وأن من استغنى بالله أغناه عن كل ما سواه وتوكل على الله كفاه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه. ثم قال: وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله أن ينفي عن قلبه ألوهية ما سوى الحق، ويثبت في قلبه ألوهية الحق]
وقال ابن القيم رحمه الله: [ومن اشتغل بالله عن نفسه كفاه الله مؤنة نفسه ومن اشتغل بالله عن الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن إشتغل بنفسه عن الله وكله الله إلى نفسه، ومن إشتغل بالناس عن الله وكله الله إليهم، وبهذا التوحيد أرسلت الرسل وأنزلت الكتب ...]
عبد الله ما أجمل أن نقبل بكليتنا على ربنا الذي خلقنا وأغدق علينا من نعمة فما بنا من نعمة فمنه سبحانه وتعالى .
أخي ألا تقول كما قال خليل الله: (أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ{75} أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ{76} فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ{77} الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ{78} وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ{79} وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ{80} وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ{81} وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ{82}
عبد الله إنها فرصتك العظيمة لتدارك جميع أعمالك، عبدالله إن مجرد توبتك وعودتك إلى توحيد الله يبدل كل سيئاتك إلى حسنات فلا تضيع الفرصة: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً{68} يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً{69} إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً{70}
أسأل الله بمنه وكرمه أن يرزقنا توحيده وحبه والإنابة إليه ويجنبنا الشرك ما ظهر منه وما بطن وأن يتوفانا مسلمين ويلحقنا بالصالحين .