الخوف والخشية من الله -سبحانه وتعالى- ضمن الأخلاق الاعتقادية
والشمائل الإيمانية لخير البرية -صلى الله عليه وسلم- وقد ذكرنا: أن هذه الأخلاق
والشمائل المتعلقة بالإيمان والعبادات الباطنية هي من أهم هذه الأخلاق والشمائل
وأعظمها، وأكثرها إظهارا لرفعة مقام رسولنا -عليه الصلاة والسلام- وأكثرها بيانا
لما هو عليه صلى الله عليه وسلم من أثر هذه الشمائل العظيمة في واقع حياته كقدوة
حسنة وأسوة عظيمة لأمته.
وكما مر بنا في خلق الرضا نقسم الحديث إلى
قسمين:
الأول: يتناول الموضوع ذاته، فنتحدث عن الخوف والخشية ومعانيهما
ومكانتهما وآثارهما،
الثاني: يتناول
الأمثلة القولية والعملية من حياته صلى الله عليه وسلم التي تتجلى فيها أعظم صور
الخشية والخوف من الحق سبحانه وتعالى.
الخوف والخشية ومعانيهما ومكانتهما
وآثارهما:
أولاً: معنى الخوف
والخشية:-
والكلمتان متقاربتان في معناهما اللغوي، يقول
ابن فارس في معجمه عن الخشية: أنها من الفعل الثلاثي خشي، قال: وهو أصل يدل على خوف
وذعر، فالخشية الخوف.
وفي الخوف قال:
أنه مشتق من هذا الفعل الثلاثي: خوف، أو خَوَفَ، ثم قال: هو أصل يدل على الذعر
والفزع.
وإذا نظرنا إلى التعاريف الاصطلاحية سنجد أقوالا كثيرة لأهل العلم
في هذه المصطلحات ذات الدلالات الإيمانية.
فقال بعضهم في الخوف: إنه اضطراب
القلب، وحركته من تذكر المخوف، وهذا تعريف حسن؛ لأنه يصف حقيقة الخوف بما يقع من أثره في القلب والنفس، فهو اضطراب القلب
وعدم سكونه، والاضطراب دليل على وجود ما لا يكون مناسبا أو ملائما للقلب ليطمئن
ويسكن، فالاضطراب دليل على وجود شيء لا يحبه القلب، بل هو مكروه له، وسببه تذكر
المخوف الذي يخاف منه، سواء أكان عدوا أم كان شيئا من أمور الحياة الدنيا التي تعرض
له، وأعظم منه خوفه من الله سبحانه وتعالى.
وقال الهروي في المنازل في تعريف
الخوف: الانخلاع من طمأنينة الأمن بمطالعة
الخبر.
الانخلاع من طمأنينة الأمن: أي جاء بالضد، ضد الخوف هو الأمن، وأثر الأمن هو الطمأنينة، فالخوف: هو انخلاع
هذه الطمأنينة من القلب بسبب مطالعة الخبر، أي معرفة الخبر الذي يتعلق بالأمر الذي
يكون منه الخوف، سواء أكان موتا أم كان حسابا أو عقابا، أو شيئا من أمور
الدنيا.
وقالوا في تعريف الخشية: هي تألم القلب بسبب توقع مكروه في
المستقبل.
فهو أثر انعكس على القلب من أمر يخالفه ولا يحبه وللتوضيح قالوا:
"وتارة يكون بكثرة جناية العبد يعني يخاف لأنه أفرط في المعاصي والمخالفات، وتارة
يكون بمعرفة جلال الله وهيبته" لكن كما هو معلوم في لغة العرب أن المعاني قد
تتقارب، ولكن لابد أن يكون بينها فرقا.
ثانياً: ما
الفرق بين الخوف والخشية
؟
لبيان شيء من التفاوت بينهما لأهل العلم
مقالات منها أنهم قالوا: الخشية خوف مشوب بتعظيم. يعني فيه معنى الخوف، ولكن بتعظيم
الذي يخاف منه، نحن مثلا نعرف أن الطالب قد يخاف من الاختبار، لكنه لا يسمى خشية
باعتبار أنه أمر يسير ليس فيه تعظيم وليس المخوف منه عظيما وضخما أو هائلا، كما قد
يكون في شأن الخشية .
وبعضهم قال: الخشية خوف مقرون بإجلال يعني
بتقدير وتعظيم، وأكثر ما تكون الخشية عن العلم بما يُخشى منه. فالخوف يختلف كذلك عن
الخشية بأن للخشية تعلقا أكبر بالعلم والمعرفة بما يخشى
منه.
قال ابن القيم -رحمه الله- في المدارج: الخشية أخص من الخوف يعني الخوف معنى عام، والخشية معنى فيه خصوصية، كما قلنا خوف ممزوج أو مشوب بتعظيم
أو بإجلال.
قال فالخشية للعلماء كما قال الله -عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى
اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: من الآية
28).
فهو خوف مقرون بمعرفة، وقال النبي عليه الصلاة والسلام "إني أتقاكم
لله وأشدكم له خشية" فالخشية فيها مقام أعلى في معرفة الخوف
ولذلك ذكروا هذا الفرق في أن الخشية منزلة أعلى وأعظم في دلالة
الخوف.
ومما قاله الفيروز أبادي في بيان هذا الفرق، كلام يدل على هذا
المعنى وهو أوسع مما ذكر، قال:
الخوف لعامة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين، والهيبة للمحبين، والوجل للمقربين،
وعلى قدر العلم والمعرفة تكون الخشية.
وقد قال -عليه الصلاة والسلام-:
(لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم
كثيرا).
فعلمه بالله عز وجل وعظمته وشدة عذابه، وسطوة انتقامه جعل في قلبه
من الخشية ما ليس في قلب غيره من بقية الأمة.
ولذلك أيضا في الفرق بينهما أن
صاحب الخشية يلتجئ إلى الاعتصام بالعلم، وصاحب الخوف
يلتجئ إلى الهرب والبعد، بمعنى أن الخائف لأن خوفه ليس له ارتباط بالمعرفة
والعلم، يسعى إلى الهرب وتجنب المحذور، لكن صاحب الخشية رغم وجود الهرب فإنه يعتصم
بالعلم فيكون ملتمسا طريقا إلى الأمن أفضل من مجرد الخوف، الآن إذا فاجأ الناس شيء
خافوا واضطربوا وتحيروا، وكان للخوف أثره في عدم قدرتهم على فعل الأنفع لما يدفع
ذلك الخوف، أما إذا جاءهم أمر وكانوا على بصيرة وعلم وبينة بأن هذا الخطر هو نوعه
كذا وطريقته كذا وهذا مثلا السلاح يؤثر بهذه الطريقة، أو هذا المرض العدوى منه كذا
وكذا، عندما تزيد معرفتهم تكون خشيتهم بهذا العلم أو من خلال هذه المعرفة أدعى إلى
أخذهم بأسباب السلامة والوصول إلى شاطئ الأمن بإذن الله -سبحانه
وتعالى-.
ومن هنا قال الكفوي: الخشية أشد من الخوف، وكما قال أيضا: الخشية
تكون من عظم المخشي، وإن كان الخاشي قويا، والخوف يكون من ضعف الخائف وإن كان
المخوف يسيرا.
يمثل الله -سبحانه وتعالى- بقوله: {لَوْ
أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً
مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (الحشر: من الآية 21).
هل الجبل ضعيف؟ هل الجبل يوصف
بالضعف؟ الجبل يوصف بالشدة والثبات والقوة، ومع ذلك خشع وخشي وقد يندك، لماذا؟ لأن
الخشية هنا من عظمة المخشي، والخوف من ضعف الخائف، فإن بعض الناس نعرف أنهم قد
يخافون، كما نقول في بعض التعبيرات: فلان يخاف من ظله، تعبير عن شدة خوفه من أدنى
شيء.
لماذا يختلف الناس؟ هذا يخاف ويضطرب والآخر لا يضطرب؛ لأن هذا أقوى
من هذا، فالخوف في أكثر أحواله يكون بسبب ضعف الرجل أو ضعف الخائف، وإنما الخشية
تكون بسبب عظمة الذي يخشى منه. وهذه الفروق لعلها توضح الأمر
وتبينه.
والرازي قال كلاما بهذا المعنى واستشهد له بمثل ما ذكرنا من هذا
القول في الاستشهاد بقوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ}
(الحشر: من الآية 21).
ثالثاً: الخوف والخشية في القرآن والسنة:
ما مقامهما؟ ما عظمتهما؟ ما مكانهما حتى نستطيع أو ندرك أننا أمام
أمر عظيم وخصلة مهمة، ومعنى من معاني القلوب والنفوس كلنا محتاج إليه ومفتقر
إليه؟
1- الأمر
والتذكير:
الله عز وجل أمر بخشيته، وذكّرنا بذلك، ودعانا
إليه سبحانه وتعالى، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا
يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ
وَالِدِهِ شَيْئاً} (لقمان: من الآية 33).
الله -عز وجل- أمرنا أن نخشى ما
يكون من أمره وتقديره وقيام الساعة وما يكون فيها من حساب وعقاب، وقال جل وعلا:
{وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً}
(الأعراف: من الآية 56).
أمر بأن يكون هناك خوف مع هذا الرجاء، والتذكر
لأمر الله سبحانه وتعالى، والله جل وعلا عندما يدعونا إلى أمر إنما يدعونا إليه
لأنه في مصلحتنا ومنفعتنا من جهة، ولأنه أمر لابد لنا منه، ولو تركناه لكان فيه
علينا أثر سيئ، أو ضرر يقع على الإنسان المسلم في دنياه، وقد يكون له أثر أيضا في
أخراه.
2- النهي والتحذير:
نهى الله عز وجل عن خشية غيره وحذر من ذلك،
وجاءت الآيات في هذا كثيرة، كما في قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ
حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}
(البقرة: آية 150).
وقال -عز وجل-: {فَلا تَخَافُوهُمْ
وَخَافُونِ} (آل عمران الآية 175).
وقال: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ
وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} (المائدة: الآية
44).
والله سبحانه وتعالى ذكر ذلك في آيات كثيرة، وعرّض على سبيل الذم
والقدح بمن يخشى غير الله كما قال في قوله: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ
إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ
خَشْيَةً} (النساء: الآية 77). والحال أن هذا الفعل منهم غير مقبول، بل هو
مذموم.
3- المدح والثناء للخشية وأهلها:
وقد ذكرها الله -عز وجل- صفة
للأنبياء، وذكرها صفة للملائكة، وذكرها صفة للأولياء، والله -سبحانه وتعالى- قال في
صفة الملائكة: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ
مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}
(الأنبياء:26،27). ثم قال سبحانه وتعالى في بيان الصفة: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا
لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء: الآية
28).
فوصف الملائكة الذين هم عباد الله المقربون بهذه الصفة كما بين الحق
سبحانه وتعالى :{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا
يُؤْمَرُونَ} (النحل:50).
وذلك أيضا في صفة الملائكة، وقال جل وعلا في
صفة الأنبياء: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا
يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} (الأحزاب: الآية
39).
فجعل ذلك صفة لخير خلقه وصفوته وهم الرسل
والأنبياء.
وأيضا بين الله سبحانه وتعالى أنه صفة الأولياء وأصحاب العقول، لما
بين من جملة صفاتهم، قوله: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ
يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}
(الرعد:21).
فهذه صفة أهل الإيمان وصفة أهل الولاية والتقوى، كما قال سبحانه
وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً
لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ
السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء:48،49).
فهذا كله على سبيل المدح
والثناء، والترغيب والتحبيب في هذه الصفة التي جعلت للملائكة المقربين الذين يفعلون
ما يؤمرون، وللأنبياء الذين هم صفوة الخلق، ولخيرة خلقه من المتقين والعابدين
والمؤمنين.
وأيضا جعلت صفة للعلماء، كما قال -عز وجل-: {إِنَّمَا يَخْشَى
اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر:الآية
28).
وكما قال عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى الحديث: (أما إني
أعبدكم لله وأشدكم له خشية).