--------------------------------------------------------------------------------
زكريا يناجي ربه بما يثقل كاهله
نشأ نبي الله زكريا عليه السﻼم، في وسط خضم متﻼطم اﻻتجاهات، وعاش منذ فتوته على الوفاء بالعهد، قائما على الدعوة، حافظا للعقيدة. وكان همه الوحيد هو طاعة الله وعبادته،
وأمله هداية الناس وردهم إلى جادة الصواب، وكان دأبه التنقل بين محرابه وحانوته، سعيا وراء الرزق الحﻼل، فإن أصاب ماﻻ سد رمق الجائع، ومسح دمعة البائس، ثم يرجع إلى
محرابه فارغ اليدين إﻻ من فضل الله، صامتا إﻻ عن ذكر الله.
هكذا عاش زكريا عليه السﻼم، حياة رائعة، حافلة بالمآثر والمزايا. فقد كان قنوعا، رضي النفس، نقي الضمير، ﻻ تحرك دواخله نزعات النفس البشرية، وعلى رأسها الرغبة في
الذرية واﻻمتداد، لقد اكتفى من حياته بالقيام على خدمة الهيكل، ورعاية شؤون الدين، فلم يؤرقه كبر سنه، وهو بﻼ ولد، بل كان يجد غنى كبيراً وهو عاكف على العبادة والتضحية
في شؤون الدنيا من أجل اﻵخرة التي هي بغية كل مؤمن موقن.
وكان زكريا قد صار في سن الشيخوخة، وبلغ من العمر التسعين عاما، ووهن العظم منه واشتعل رأسه شيباً عندما راودته فكرة احتلت حيز تفكيره، وملكت عليه مدار ضميره ومشاعره.
فقد صار على قاب قوسين أو أدنى من الموت، وهو ﻻ يجد من يرث حكمته، ويضطلع بأمانة الدعوة إلى الله من بعده. إنه يخاف على الدين.
لقد كانت تلك اﻻفكار تجول في خاطره، وتضطرب بين حنايا صدره. ولكنه ظل صابراً متجمﻼً إﻻ من زفرات يلفظها إذ أجث الليل، أو دعوات يرفعها إلى الله. كلما احتوته الوحدة والعزلة.
ويذهب زكريا عليه السﻼم يوماً إلى المحراب كعادته. ويدخل على كفيلته مريم بنت عمران في محرابها الخاص في الهيكل فيجد عندها رزقاً.
ويسأل تلك العابدة، عن مصدر رزقها، ويسمعها بعفوية خالصة تقول له “هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب”.
اعتكاف
اشتعلت في نفس زكريا الرغبة في المولود. فاعتكف في محرابه بعيداً عن الناس، وعن الوجود اﻷرضي، ورفع يديه إلى السماء، وسرح في إشراقة النفس وهو يناجي ربه في
الخفاء ويقول: (رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً، ولم اكن بدعائك رب شقياً. وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً، فهب لي من لدنك ولياً، يرثني
ويرث من آل يعقوب، واجعله رب رضياً”.
فما أجمل مناجاة زكريا، بعيداً عن عيون الناس، بعيداً عن أسماعهم، وفي غرفة منفردة، يخلص فيها لربه، ويكشف له عما يثقل كاهله ويكرب صدره، ﻷنه يضيق بوجود أولئك
الموالي من بعده، فهو يخافهم، ﻷنه يخاف على العقيدة منهم. وها هو ينادي ربه عن قرب واتصال، وبﻼ واسطة، وحتى إنه لم يستعمل حرف النداء. فهو على يقين بأنه لم يكن
يوما ليشقى بدعاء ربه، بل كان يستجيب له كلما دعاه. وها هو اﻵن يناجي.
هذه كانت حالة زكريا، وهو يشكو إلى ربه ما أصابه من وهن العظم واشتعال الرأس بالشيب، وهو على يقين بأن الله قد عوده على أن يستجيب له إذا دعاه، فلم يشق مع دعائه
لربه وهو في فتوته وقوته، فما أشد حاجته اﻵن وهو في هرمه وكبره إلى أن يستجيب الله له ويتم نعمته عليه.
وترتسم لحظة اﻻستجابة في رعاية وعطف ورضا. يستجيب الله في المﻸ اﻷعلى وتنادي المﻼئكة زكريا وهو قائم يصلي في المحراب عن الله عز وجل قوله: (يا زكريا إنا نبشرك
بغﻼم اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا”.
والمتأمل لﻶية السابقة يجد أن الله سبحانه وتعالى لم يقف كرمه عند اﻻستجابة، بل تخطاه إلى تبشير عبده الصالح بأنه سيرزقه الولد، وبأنه اختار اسم هذا الولد وفقًا لرغبة أبيه.
وهل كانت رغبة زكريا إﻻ أن تبقى العقيدة قائمة حية، وهل اسم “يحيى” إﻻ حياة تلك العقيدة من بعد حافظها وحاملها. لقد اختار الله اسم الغﻼم ليدل على استجابته لعبده ونجواه،
وليريه من آياته اﻻختيار الفريد الذي لم يسبقه اختيار في اﻷرض كلها ومنذ وجود البشرية حتى ذلك التاريخ.
حرارة اﻻستجابة
تغمر زكريا حرارة اﻻستجابة، ولكنه وهو يثق بوعد الله، يريد أن يعرف كيف يكون تحقيقه، وهو رجل شيخ، بلغ من الكبر عتيا، وامرأته عاقر في مثل سنه، ولم تلد له في
فتوته وصباه. فقال ليطمئن قلبه: “رب أنىّ يكون لي غﻼم وكانت امرأتي عاقرا، وقد بلغت من الكبر عتيا؟”.
ويأتيه جواب ربه الحاسم: “قال كذلك قال ربك هو عليّ هين”؟
نعم إنه أمر هين على الله، وسهل. وقد ذكر عبده بمثل قريب في نفسه وهو إيجاده وخلقه، وهو مثل لكل كائن حي، ولكل شيء في هذا الوجود، فقال عز وجل: “وقد خلقتك
من قبل ولم تك شيئا”.
إنه المثل الحي الناطق في كل منا، فنحن جميعا لم نك شيئا قبل إرادة الله سبحانه، التي ليس عندها هين وصعب في الخلق. إنها إرادة واحدة تقول للشيء: كن.. فيكون.
ويشاء الشيخ أن يزيد اطمئنانًا، فيطلب آية وعﻼمة على تحقق البشرى فعﻼ. ويعطيه الله سبحانه اﻵية التي تناسب الجو النفسي الذي كان فيه الدعاء، وكانت فيه اﻻستجابة،
ليؤدي بها حق الشكر لله الذي وهبه على الكبر غﻼما.
وتلك العﻼمة هي أن ينقطع زكريا عن الناس، ويحيا مع الله، ثﻼث ليال، ﻻ ينطلق لسانه إﻻ إذا سبح ربه، ويحتبس إذا كلم الناس، وهو سوي معافى في جوارحه، لم يصب لسانه
عوج وﻻ آفة. فكان قول الله له عز من قائل: “آيتك أﻻ تكلم الناس ثﻼث ليال سويا”.
وتتحقق اﻹرادة اﻹلهية، ويولد يحيى، ليحمل اﻷمانة فيحيا فيها وتحيا هي فيه حتى يقوم من بعد زكريا من يواصل الدعوة إلى الحق فتظل قائمة على مر الدهور واﻷزمان.
فسﻼم الله على زكريا إنه كان عبدا نقيا تقيا.