الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإذا كنا نردد دائمًا: "كل خير في اتباع من سلف", و"لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها", صفة الفرقة الناجية:
«مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي»
[رواه الترمذي، وحسنه الألباني]... إلى غير ذلك من العبارات المنهجية الرائعة التي تبين أحقية وصحة المنهج السلفي فلابد أن نعلم أن حسن الخلق ركن ركين من ذاك المنهج؛ لأن هذا المنهج هو الإسلام بشموله وعمومه، وما أحسن ما فعله شيخ الإسلام -رحمه الله- حين خصص فصلاً لمحاسن الأخلاق في كتابه الرائع
(العقيدة الواسطية)
مع أنه كتاب عقائدي؛ لأن العقيدة لا تنفصل عن حسن الخلق، ولقد استحسن أهل العلم ما صنعه الحافظ "ابن حجر" -رحمه الله- من تخصيصه فصلاً لحسن الخلق في
(بلوغ المرام)
مع أنه كتاب فقهي, فكيف لا يهتم بحسن الخلق وقد بعث -صلى الله عليه وسلم- لإتمامه؟!
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:
«إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاَقِ»
[رواه أحمد، وصححه الألباني]، وقال -صلى الله عليه وسلم-:
«مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ»
[رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني]، وقال:
«إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ»
[رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني]، وقال:
«إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقًا»
[رواه الترمذي، وصححه الألباني].
وقال:
«إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْن الْخُلُقِ»
[رواه البزار في مسنده وأبو نعيم في الحلية، وقال الألباني: حسن لغيره]، فما أحوجنا إلى حسن الخلق الذي يصلح دنيا العبد وآخرته...
- إن حسن الخلق يفتح القلوب الغلف، والأعين العمي، والآذان الصم، ويشرح الصدور للدين والحق.
- إن حسن الخلق من أهم أسباب نجاح الدعوة والداعية، بل نجاح الإنسان في حياته كلها مع أهله وجيرانه، وأصحابه وشركائه.
- إن حسن الخلق أثر من آثار معرفة العبد لربه -سبحانه وتعالى-، معرفته لعفوه وحلمه، وجوده وكرمه وعطائه، ومنه وبره، ورحمته ورأفته بعبادته وخلقه، مع قدرته وعظمته وكبريائه -سبحانه عز وجل-، ومعرفة العبد لنفسه وفقره وضعفه، وجهله وظلمه مما يأخذ بيده إلى الانكسار لربه، والتواضع لخلقه، والرحمة لعباده؛ فتجده مزريًا لنفسه، هاضمًا لحقها يرى حق إخوانه عليه، ولا يرى له حق على إخوانه.
- إن الخلق الحسن أثر من آثار معرفة النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وأخلاقه وشمائله من: التواضع، والرفق ولين الجانب، والحلم والأناة، والبشاشة والرحمة، وبذل المعروف، والكلمة الطيبة، والكرم، والشجاعة....الخ تلك الصفات التي جُمعت فيه -صلى الله عليه وسلم-؛ فاجتمعت عليه القلوب، وتألف به الأعداء فأخرج خير أمة أخرجت للناس من ظلمات الجهل والشرك إلى نور الإيمان والعلم، وتأمَّل ثناء الرب على نبيه مبينـًا صفاته الجميلة:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}
[آل عمران: 159]،
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}
[القلم: 4].
- إن المتأمل في سعة أخلاقه -صلى الله عليه وسلم- يجد ما يبهر العقول؛ انظر إلى حلمه ورفقه في تعامله مع الأعرابي؛ ذاك الذي دخل ليبول في المسجد فرفق به, وذاك الذي ناداه بأعلى صوته: يا محمد... وذلك الذي جذبه من ردائه يطلب عطاء فأعطاه مبتسمًا، بل مع المنافقين الذين طعنوا فيه، وفي عرضه الشريف وحاولوا قتله كيف كان يصفح عنهم ويستغفر لهم؟! بل يصلي عليهم حتى نهاه ربه عن الصلاة عليهم، فما أوسع صدره وما أكرم شمائله فبذاك كان يذهب الرجل ينادي في قومه: "جئتكم من عند خير الناس"! وانظر إلى كرمه وبذله للمال فكان لا يدَّخر شيئًا لنفسه، ويعطي الرجل المائة من الإبل والغنم بين جبلين، حتى ينادي أحدهم: "يا قوم أسلموا فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر".
ربط ثمامة بن أثال ثلاثة أيام في المسجد فرأى من حلم رسول الله ما رأى، ثم منَّ عليه وعفا عنه مجانـًا؛ فقال ثمامة بعد أن أسلم: "يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلاَدِ كُلِّهَا إِلَيَّ" [رواه مسلم].
ما الذي حوَّل الرجل كل هذا التحول؟، أتراه المنهج الحق فقط؟، أم من يحمله؟، أم هما معًا؟
أهدي هذه الكلمات، بل أقذف بها في أيام انتشر فيها الجفاء وكثر فيها العبوس، وضاقت فيها الصدور، واشتدت فيها العبارات واخشوشنت الكلمات، واختلفت كلمات الحب وبين من؟! إخوة الدين، بل إخوة المنهج والطريق؛ حتى أصبحت السلفية تعني الشدة والخشونة عند الكثير ليس إلا!
رويدًا رويدًا إخواني.. ما هكذا تنصر السنة ويُقام الدين، وما هكذا ترفع الراية! أنسينا:
«إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ»
[رواه مسلم]،
«إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ»
[رواه مسلم]،
«إن الله إذا أحب أهل بيت أدخل عليهم الرفق»
[رواه أحمد والبيهقي، وصححه الألباني]،
«الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»
[رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني]،
«ارْحَمُوا تُرْحَمُوا»
[رواه أحمد، وصححه الألباني]،
«لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلاَّ مِنْ شَقِيِّ»
[رواه أبو داود والترمذي، وحسنه الألباني].
إن هذه الخشونة وتلك الشدة في كثير من الأحيان علامة على ضيق الصدر والبعد عن الرب، وقسوة القلب، ورؤية النفس، واحتقار الخلق -نسأل الله السلامة والعافية من هذه البلايا-.
إخواني: رب كلمة أحدثت جرحًا غائرًا، وألمًا نفسيًا أو مرضًا أعيا الأطباء، واستعصى على الحكماء.
تأمل في كثرة النصوص من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي ترغـِّب في محاسن الأخلاق، وفي الصفح والحلم والرفق حتى إن العلماء أفردوا لها كتبًا وصنَفوا فيها تصانيف مفردة.
ولكن هاهنا شبهة لابد من ردها:
البعض يحاول أن يبرر شدته وخشونته بأن الذي يدفعه إلى ذلك نصرة الدين والغيرة على السنة، فأقول:
أخي الحبيب: لن تكون أغير من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على محارم الله.
والبعض يبرر فعله بأن فلانـًا من الأفاضل قال وفعل!
أقول: كل يؤخذ من قوله وفعله ويترك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فهذه قاعدة هامة تستخدم في كل باب من أبواب الدين: العقيدة، والفقه، وأيضًا محاسن الأخلاق.
ولا أريد أن أنفي فائدة استعمال الشدة -أحيانـًا- بالكلية، ولكن أردت أن أبيِّن فضل الرفق واللين، والتواضع، والبشاشة، وأن هذا هو الأصل، وأن الشدة استثناء بضوابط.
فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيء الأخلاق لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، تباركت وتعاليت.