تحرير المحكمة الدستورية
ما علمته أن جدلاً محتدماً ثار بين مجموعتين من قضاة المحكمة الدستورية
التسعة عشر الأجلاء، المجموعة الأولى وهى مكونةُ من الأحد عشر قاضياً
الأقدم، الذين سيستمرون فى عملهم بعد إقرار الدستور ( مادة 233 ) والمجموعة
الثانية وهى مكونةٌ من الثمانية الباقين، متضمنةً ثلاثةً ممن يقودون العمل
السياسى داخل وخارج المحكمة، بدءاً بالتنسيق مع وحضور جلسات المجلس
العسكرى الذى كان، ونهايةً بالظهور الدائم فى وسائل الإعلام وإبداء
التصريحات بشأن قضايا منظورة ومتداولة أمامهم، بالمخالفة لقانونى المرافعات
والسلطة القضائية، دون أن يحاسبهم أحد ..
كان الجدل ولازال متركزاً حول أمرين : -
الأمر الأول هو : من المتسبب فيما وصلت إليه المحكمة الدستورية لهذه
الدرجة من الكره الشعبى ؟ ومن المتسبب أيضاً فى إدخالها المعترك السياسى
العام وانحيازها لرموز وسياسات النظام البائد بهذه الصورة الفجّة ؟ بعكس
محكمة النقض مثلاً أو الإدارية العليا أو مجلس القضاء الأعلى ؟
والأمر الثانى هو : إصرار القضاة الثلاثة الأجلاء على انتهاج سياسة الأرض
المحروقة، بمعنى أنه بما أنهم سيغادرون المحكمة إلى غير رجعة، فإنه لابد من
حرق الجميع معهم، حتى ولو كانوا زملائهم أو شيوخهم وأساتذتهم ! ولا بأس من
التضحية بما تبقى من سمعة للمحكمة الدستورية العليا !!
إلا أنه
يبدو أن رأى الشيوخ قد تغلّب، وأنهم لم يستجيبوا هذه المرة لتلك الأفكار
والمقترحات المهلكة، على نحو ما أهلكتهم مقترحاتٍ سابقة، واستطاع الشيوخ
بحنكتهم وخبرتهم وحكمتهم أن يزحزحوا المحكمة خطوةً إلى الأمام من أسر
الاختطاف الذى عاشت فيه من شهر يونيو الماضى ( تاريخ حكم عدم دستورية قانون
مجلس الشعب ) وأصدروا بيانهم اليوم، الذى أجَّل كل الأمور لوقتٍ آخر، حتى
تهدأ النفوس، ويزول الاحتقان، وتستقر الأوضاع، وتتميز المجموعتان من القضاة
عن بعضهما ..
ولعل هذا ما يفسر للجميع أنه على الرغم من اتصال
وزير الداخلية برئيس المحكمة صباح اليوم وطمأنته بأن الطريق إلى منصته
العالية آمنٌ تماماً، إلا أن رئيس المحكمة وباقى الشيوخ الأجلاء آثروا عدم
الحضور وأصدروا بيانهم، الذى كان ظاهره اشتداد اللهجة، وباطنه الرحمة
والحكمة، ومقصده تفويت الفرصة على مختطفى المحكمة ..
إننا نحلم
بمحكمةٍ دستورية بعيدةً عن التوازنات السياسية والحزبية، يمتنع قضاتها عن
إطلاق التصريحات الصحفية عما تحت أيديهم من قضايا متداولة، محكمةٌ قادرة
على محاسبة أىٍّ من أعضائها يفشى أسرارها ومداولاتها عبر وسائل الإعلام ..
أحلم بمحكمة القاضى الجليل عوض المر والقاضى الجليل ولىّ الدين جلال
وغيرهما من قضاة مصر العِظام ..
نحلم بمحكمةِ دستوريةٍ محررة من أسر أى اختطاف ..