قوافل التائبين , ومواكب العائدين , ومراكب الناجين
عليهم إشراقة الإيمان ونفحات الرضا , وأنس الخلوة
وجلال العبادة , وجمال الطاعة .."
سيماهم في وجوههم من أثر السجود " [الفتح 29]
عرفناهم : في مراوحة الأقدام بالقيام
عرفناهم : بالصدقة الجزلة والعطاء الكريم والتبرع السخي
عرفناهم : بتلاوة القران وترتيلة وتدبرة وترديده
عرفناهم : في كل عمل خير , وطريق بر
لهم مع كل هيعة صياح .. ويمنعهم عن التهويمة النياح
فيا قوافل التائبين أهلا وسهلاً . كيف لا نفرح بالتائبين
وقد فرح بهم رب العالمين
مجلسنا اليوم مع العائدين , وحديثنا عن التائبين :
لأن القلوب تلين عند سماع خبرهم والأفئدة ترق عند ذكر حديثهم
قال عمر بن الخطاب_رضي الله عنه_ :
" جالسوا التوابين فإنهم أرق شيء أفئدة " (حلية الأولياء 1/513 )
( يا معشر التائبين من أقامكم وأقعدنا ؟ من قرَّبكم وأبعدنا ؟ "
إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده
" قفوا لأجل زَمِن , ارحموا من قد عطب .. )
(ابن الجوزي المدهش ص 358)
الحديث عن التائبين يجمل ويطول وحتى نلم شتاته
ونجمع أطرافة نجعله في إشارات وإضاءات علَّها تدفع سائراً
وتوقظ حائراً , وتقيم عاثراً
والله يتولى الجميع بإحسانة
الإضاءة الأولى
بادر بالتوبة ولا تسوف , فالعمر قصير , والأمر عسير ,
والطالب غالب .. قال لقمان لابنة "يا بنى لا تؤخر التوبة
فإن الموت يأتي بغتة , ومن ترك البادرة إلى التوبة بالتسويف
كان بين خطرين عظيمين أحدهما :
أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي حتى يصير
ديناً وطبعاً فلا يقبل المحو , الثاني : أن يعاجله
المرض أو الموت فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو .
أيها العاصي المقصر- وكلنا ذلك -
إذا لم توقظنا المواعظ فمتى تستيقظ ؟!
( وا أسفا لمضروب بالسياط ما يحس بالألم ، ومدعو إلى النور
ثم هو يختار الظُلم . الخير كله بجوارك , والناصح ينادي
عن يمينك وشمالك , وقد اشتد بك زكام آثامك )
فلا نسيم خير تشم ولا لطعمه تستروح .
ألا يكفيك الموت واعظاً ؟!
قد أخذ أحبابك وأقرانك وإخوانك
( كم أخرج الموت نفساً من دارها لم يدارها
وكم انزل أجساداً
بجوارها لم يجارها ،وكم نقل ذات أخطاءٍ بأوزارها
كم أجرى عيون كالعيون بعد بُعد مزارها ).
يا مغرماً بوصال عيش ناعم ستصد عنه طائعاً أو كارها
إن المنية تزعج الأحرار عن أوطانهم والطير عن أوكارها
بادر إقبالة الشهر بالتوبة , وأعلن فيه إلى الله الأوبة ,
وتدارك نفسك ما دمت في وقت المهلة قبل :
" أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ
وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ
هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ " (الزمر :56، 57 )
الإضاءة الثانية
التوبة وظيفة العمر .. فهي كما تكون عن الخطيئة
فإنها تكون عن التقصير في أداء حق المنعم وشكره
ومن ذا يؤدي للإله حقه أو يقوم له بتمام شكر النعمة
إذا كان شكري نعمة الله نعمة عليَّ لـه في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتصل العمر
كان الرسول عليه الصلاة والسلام - وقد غفر له ما تقدم
من ذنبه وما تأخر - يستغفر الله ويتوب إليه
في اليوم مائة مرة! أو لسنا أولى بذلك منه وأحوج !! .
التوبة بداية العبد ونهايتة خاطب الله بها أهل الإيمان
وحملته من الصحابة رضي الله عنهم - بعد جهادهم
الطويل وصبرهم وعبادتهم وهجرتهم - فقال :
" وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ". ( النور31)
حين توجد المحاسبة تعرف قيمة التوبة
إذ بالمحاسبة يعرف النقص, أما أن يعمل الإنسان
ولا يلوي على شيء ولا يدري عن شيء
فتلك هي الغفلة أعاذنا الله منها .
الإضاءة الثالثة
إياك واليأس والقنوط من روح الله ورحمته
فإذا كررت الذنب فكرر التوبة , وإذا أحدثت
خطأ فأحدث له أوبه , فإن الله لا يمل حتى تملوا
قل للذي ألف الذنوب وأجرما
وغــدا على زلاته متندما
لا تيأسن واطلب كريماً دائماً يولي
الجميل تفضلاً و تكرماً
وإذا غلبتك نفسك على المعصية مرة أخرى
فعد إلى التوبة , فإن عادت فعد
" إن الحسنات يذهبن السيئات "[ هود 114]
إياك أن تستعظم المعصية - أياً كانت - فتردك
عن التوبة وتزين لك البقاء على الحال
فإن هذا سوء أدب وظن بالله ..
إن الله لا يعظم عليه ذنب أن يغفره
" إن الله يغفر الذنوب جميعاً " [الزمر 53]
غفر للمشرك شركه ولقاتل
المئة ذنبه فهل ذنبك أعظم ؟!
إذا أذنبت فتب وأندم فقد سبقك أبوك آدم
فلا تقلد أباك في الذنب وتقعد عن تقليده في التوبة
واهتف وناج ربك قائلاً :
يا كــثير العفو عمن كثر الذنب لـــديه
جاءك المذنب يرجـو الصفح عن جرم يـديه
أنا ضيف وجزاء الضيف أحــــسان إليـــه
الإضاءة الرابعة
أيها التائب إن قعودك بعد التوبة عجز ومهانة
كنت قبل الهداية من دعاة الضلالة !
فلما أن هداك الله لزمت بيتك واشتغلت
في خاصة نفسك وظننت أن ذلك يغنيك ،
أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام ؟!
كنت قبل تنفق على الفساد والإفساد
دراهم غير معدودة _ دخان وغناء وأفلام
وسفر وسهر _ فلما أن هداك الله بخلت بوقتك
وبدراهم معدودة ،
فهل جمّد الشيطان رصيدك وقطع صرف
دراهمك بعد الهداية وهل خوفك الفقر
" الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ..... "
قال ميمون بن مهران "
من أساء سراً قبلت سراً ومن أساء علانية
قبلت علانية فإن الناس يُعَيِّرون ولا يغفرون
والله يغفر ولا يعَيِّر" والمعنى :
أن ذنب السر يكفي فيه توبة السر
أما الذنب الذي استطار شرره وعم الفضاء
دخانه فلابد له من توبة يشرق نورها
ويفوح عبيرها بالعلم والعبادة والإصلاح
ثم ليعلم أن من أسباب الثبات على الهداية
الاشتغال بها والدعوة إليها ، فهاجم قبل
أن تهاجم , وادع قبل أن تدع وكن لنفسك
على حذر ولا تلق بها في الخطر
فأنت أدري بنفسك ومواطن ضعفك
فاستعن بالله ثم بإخوانك
الإضاءة الخامسة
لا يجوز أن يُعير أحد بذنب بعد التوبة
ففي الحديث " التائب من الذنب كمن لا ذنب له "
(سنن ابن ماجة (4250 )
وحسنه السيوطي والألباني )
الإضاءة السادسة
أيها التائب الزم الجادة وداوم العمل
و اطلب حلاوة إيمانك , وداوم السير طلباً
لحسن سيرتك . فقد كان الصحابة
إذا أسلموا لازموا العمل حتى يحسن
إسلامهم وتكمل أحوالهم ..
إن التوبة ليست عن الماضي فقط
ولا عن المستقبل فحسب كما يقوله ( أناتول فراس )
( معجم روائع الحكمة والأقوال الخالدة – المكتب العلمي
في دار العلم للملايين ص 69 ) وإنما هي إقلاع في الحاضر يقطع
وندم على الماضي يدفع , وعزم على عدم العود يمنع
يا معشر التائبين أوفوا بالعقود
ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها
ولا تكن كالتي نقضت غزلها بعد قوة أنكاثا
وإذا دعتك النفس إلى الكسل أو زينت
لك الرجوع إلى العادة فمنِّها بالوصول
وذكرها بالموعد مع الله
يسهل عليك السير ويهون عليك
قطع الدرب بلا تعب
وذكرها الرفقة محمد وصحبه
تنسي بذلك العناء والمشقة
وإن حننت للحمى وروضه
فباًلغضاء ماء وروضات أُخر
اللهم أحسن عاقبتنا وتوفنا وأنت راضٍ
عنا وتب علينا إنكم أنت التواب الرحيم