جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تقوى الله وحسن الخلق, لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه, وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه. فتقوى الله توجب له محبة الله, وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته.
بين العبد وبين الله والجنة
قنطرة تقطع بخطوتين: خطوة عن نفسه, وخطوة عن الخلق, فيسقط نفسه ويلغيها
فيما بينه وبين الناس, ويسقط الناس ويلغيهم فيما بينه وبين الله, فلا يلتفت
إلا إلى من دله على الله وعلى الطريق الموصلة إليه.
صاح بالصحابة واعظ:{ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُم} الأنبياء 1, فجزعت
للخوف قلوبهم, فجرت من الحذر العيون {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}
الرعد 17. تزينت الدنيا لعلي رضي الله عنه
فقال: "أنت طالق ثلاثا لا رجعة لي فيك". وكانت تكفيه واحدة للسنة, لكنه
جمع الثلاث لئلا يتصور للهوى جواز المراجعة. ودينه الصحيح وطبعه السليم
يأنفان من المحلل, كيف وهو أحد رواة حديث "لعن الله المحلل.
ما في هذه الدار موضع خلوة فاتخذه في نفسك. لا بد أن تجذبك الجواذب فاعرفها
وكن منها على حذر, ولا تضرك الشواغل إذا خلوت منها وأنت فيها. نور الحق
أضوأ من نور الشمس, فيحق لخفافيش البصائر أن تعشو عنه. الطريق إلى الله خال
من أهل الشك ومن الذين يتبعون الشهوات, وهو معمور بأهل اليقين والصبر, وهو
على الطريق كالأعلام { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ
بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} السجدة 24.
لشهادة أن لا اله إلا الله عند الموت تأثير عظيم في تكفير السيئات وإحباطها,
لأنها شهادة من عبد موقن بها عارف بمضمونها, قد ماتت منه الشهوات ولانت
نفسه المتمردة, وانقادت بعد إبائها واستعصائها وأقبلت بعد إعراضها وذلت بعد
عزها, وخرج منها حرصها على الدنيا وفضولها, واستخذت بين يدي ربها وفاطرها
ومولاها الحق أذل ما كانت له وأرجى ما كانت لعفوه ومغفرته ورحمته, وتجرد
منها التوحيد بانقطاع أسباب الشرك وتحقق بطلانه, فزالت منها تلك المنازعات
التي كانت مشغولة بها, واجتمع همها على من أيقنت بالقدوم عليه والمصير
إليه, فوجه العبد وجهه بكليته إليه, وأقبل بقلبه وروحه وهمه عليه. فاستسلم
وحده ظاهرا وباطنا, واستوى سره وعلانيته فقال: "لا إله إلا الله" مخلصا من
قلبه. وقد تخلص قلبه من التعلق بغيره والالتفات إلى ما سواه. قد خرجت
الدنيا كلها من قلبه. قد خرجت الدنيا كلها من قلبه, وشارف القدوم على ربه,
وخمدت نيران شهوته, وامتلاء قلبه من الآخرة, فصارت نصب عينيه, وصارت الدنيا
وراء ظهره, فكانت تلك الشهادة الخالصة خاتمة عمله, فطهّرته من ذنوبه,
وأدخلته على ربه, لأنه لقي ربه بشهادة صادقة خالصة, وافق ظاهرها باطنها
وسرها علانيتها, فلو حصلت له الشهادة على هذا الوجه في أيام الصحة لاستوحش
من الدنيا وأهلها, وفر إلى الله من
الناس, وأنس به دون ما سواه, لكنه شهد بها بقلب مشحون بالشهوات وحب الحياة
وأسبابها, ونفس مملوءة بطلب الحظوظ والالتفات إلى غير الله. فلو تجردت
كتجردها عند الموت لكان لها نبأ آخر وعيش آخر سوى عيشها البهيمي والله المستعان.
ماذا يملك من أمره من ناصيته بيد الله ونفسه بيده, "وقلبه بين أصبعين من أصابعه يقلبه كيف يشاء" جزء من حديث صحيح أخرجه مسلم في القدر برقم 2654 عن عبد الله بن
عمرو بن العاص, ونصّه: " ان قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن
كقلب واحد يصرفه حيث يشاء". وحياته بيده وموته بيده وسعادته بيده وشقاوته
بيده وحركاته وسكناته وأقواله وأفعاله بإذنه ومشيئته. فلا يتحرك إلا بإذنه,
ولا يفعل إلا بمشيئته. إن وكله إلى نفسه وكله إلى عجز وضيعة, وتفريط وذنب
وخطيئة. وإن وكله إلى غيره, وكله إلى من لا يملك له ضرا ولا نفعا ولا موتا
ولا حياة ولا نشورا. وإن تخلى عنه استولى عليه عدوّه وجعله أسيرا له. فهو
لا غنى له عنه طرفة عين, بل هو مضطر إليه على مدى الأنفاس في كل ذرة من
ذراته ظاهرا وباطنا, فاقته تامة إليه. ومع ذلك فهو مختلف عنه معرض عنه,
يتبغض إليه بمعصيته, مع شدة الضرورة إليه من كل وجه, قد صار لذكره نسيا,
واتخذه وراءه ظهريا, هذا وإليه مرجعه وبين يديه موقفه فرغ خاطرك للهم بما
أمرت به ولا تشغله بما ضمن لك, فإن الرزق والأجل قرينان مضمونان. فما دام
الأجل باقيا, كان الرزق آتيا وإذا سد عليك بحكمته طريقا من طرقه, فتح لك
برحمته طريقا أنفع لك منه. فتأمّل حال الجنين يأتيه غذاؤه, وهو الدم, من
طريق واحدة وهو السرّة (الحبل السرّي), فلما خرج من بطن الأم, وانقطعت تلك
الطريق, فتح له طريقين اثنين وأجرى له فيهما رزقا أطيب وألذ من الأول, لبنا
خالصا سائغا. فإذا تمت مدة الرضاع وانقطعت الطريقان بالفطام فتح طرقا أربع
أكمل منها: طعامان وشرابان, فالطعامان من الحيوان والنبات, والشرابان من
المياه والألبان وما يضاف إليهما من المنافع والملاذ. فإذا مات انقطعت عنه
هذه الطرق الأربعة. لكنه سبحانه فتح له إن كان سعيدا طرقا ثمانية, وهي
أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها يشاء. فهكذا الرب سبحانه لا يمنع عبده
المؤمن شيئا من الدنيا إلا ويؤتيه أفضل منه وأنفع له. وليس ذلك لغير
المؤمن. فإنه يمنعه الحظ الأدنى الخسيس, ولا يرضى له به ليعطيه الحظ الأعلى
النفيس. والعبد لجهله بمصالح نفسه, وجهله بكرم ربه وحكمته ولطفه, لا يعرف
التفاوت بين ما منع منه وبين ما ادخر له. بل هو مولع بحب العاجل وإن كان
دنيئا, وبقلة الرغبة في الآجل وإن كان عليا. ولو أنصف العبد ربه, وأنى له
بذلك, لعلم أن فضله عليه فيما منعه من الدنيا ولذاتها ونعيمها وأعظم من
فضله عليه فيما آتاه من ذلك, فما منعه إلا ليعطيه, ولا ابتلاه إلا ليعافيه,
ولا امتحنه إلا ليصافيه, ولا أماته إلا ليحييه, ولا أخرجه إلى هذه الدار
إلا ليتأهب منها للقدوم عليه وليسلك الطريق الموصلة إليه. ف { جَعَلَ
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ
أَرَادَ شُكُوراً} الفرقان 62, و { فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً}
الإسراء 99, والله المستعان. من عرف نفسه اشتغل بإصلاحها عن عيوب الناس,
ومن عرف ربه اشتغل به عن هوى نفسه. أنفع العمل أن تغيب فيه عن الناس
بالإخلاص, وعن نفسك بشهود المنّة, فلا ترى فيه نفسك ولا ترى الخلق دخل
الناس النار من ثلاث أبواب: باب شبهة أورثت شكا في دين الله. وباب شهوة
أورثت تقديم الهوى على طاعته ومرضاته. وباب غضب أورث العدوان على خلقه.
أصول الخطايا كلها ثلاث: الكبر: وهو الذي أصار إبليس إلى ما أصاره. والحرص:
وهو الذي أخرج آدم من الجنة. والحسد: وهو الذي جرّأ أحد ابني آدم على
أخيه. فمن وقي شر هذه الثلاثة فقد وقى الشر. فالكفر من الكبر, والمعاصي من
الحرص, والبغي والظلم من الحسد.
جعل الله بحكمته
كل جزء من أجزاء ابن آدم, ظاهرة وباطنة, آلة لشيء إذا استعمل فيه فهو
كماله. فالعين آلة للنظر. والأذن آلة للسماع. والأنف آلة للشم. واللسان
للنطق. والفرج للنكاح. واليد للبطش. والرجل للمشي. والقلب للتوحيد
والمعرفة. والروح للمحبة. والعقل آلة للتفكر والتدبر لعواقب الأمور الدينية
والدنيوية وإيثار ما ينبغي إيثاره وإهمال ما ينبغي إهماله.
أخسر الناس صفقة من اشتغل عن الله بنفسه,
بل أخسر منه من اشتغل عن نفسه بالناس. في السنن من حديث أبي سعيد يرفعه
"إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان, تقول: اتق الله, فإنما
نحن بك, فان استقمت استقمنا, وإن اعوججت اعوججنا" قوله:" تكفر اللسان",
قيل: معناه تخضع له, وفي الحديث: أن الصحابة لما دخلوا على النجاشي لم
يكفروا له, حديث دخول الصحابة على النجاشي أخرجه أحمد في المسند 1\202,
5\290, عن أم سلمة بإسناد صحيح, وابن هشام في السيرة. أي لم يسجدوا له
ويخضعوا. ولذلك قال له عمرو بن العاص : أيها الملك إنهم لا يكفرون لك.
وإنما خضعت للسان لأنه بريد القلب وترجمانه والواسطة بينه وبين الأعضاء.
وقولها:"إنما نحن بك", أي نجاتنا بك وهلاكنا بك, ولهذا قالت :" فإن استقمت
استقمنا وإن اعوججت اعوججنا".