]قال
رسول الله لنا ولمن بعدنا وللمسلمين أجمعين{ لا هِجرةَ بعدَ الفتحِ ولكنْ
جِهادٌ ونيَّة[1]بعد فتح مكة وكان فى سنة ثمان من الهجرة النبوية لم يعد
هناك هجرة مكانية وإنما أصبحت الهجرة كلها فى النيَّة فبيَّن النبى لأمته
فضل النية وأنها روح كل الأعمال التى يتوجه بها المرء إلى رب البرية
فالأعمال كالأجسام الجسم ظاهره الأعضاء وروحه التى تحركه وتسيره هى الروح
التى نفخها فيه الحى القيوم كذلك أعمال العباد نحو رب العباد ظاهرها أوامر
الشرع التى أمرنا بها الله وكلفنا بها فى كتابه أو على لسان حبيبه ومصطفاه
وباطن الأعمال الذى لا حياة لها إلا به هو النية فالنية روح الأعمال ولذا
قال الحبيب{إنَّمَا الأعمَالُ بالنِّيَّات وَإِنَّمَا لكل امرىء ما نَوَى
فَمنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى الله وَرَسُولِهِ فَهَجْرَتُهُ إلى الله
وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أو امْرَأةٍ
يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ}[2]فالعمل بالظاهر
امتثال لأمر الشارع الأعظم واقتداء بالحبيب لكن ثوابه وأجره وفتحه وقبوله
كل ذلك يتوقف على نية العامل فيه إن كان يريد به رضاء الناس والسمعة
والشهرة عند الخلق كان عمله رياءاً فالرياء هو العمل من أجل الخلق أى لا
يقصد به إلا الخلق لا نية فيه من قريب أو بعيد للحق كل همه وبغيته فيه
العمل الخلق وفي مثله يقول النبى{مَنْ صَلَّى يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ
ومَنْ صَامَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ وَمَنْ تَصَدَّقَ يُرَائِي فَقَدْ
أَشْرَكَ}[3]والحديث بيان لقول الله جل فى علاه{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء
رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً}وشرط قبوله{وَلَا يُشْرِكْ
بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}أى لا يجعل فى نيته عند توجهه للعمل أو قيامه
به رغبة فى السمعة عند الخلق أو اكتساب المحمدة أو التفاخر أو التظاهر أو
حتى الإعجاب بنفسه لأنه يعمل هذا العمل دون غيره لأن هذا فى نظر الله وفى
كتابه شرك لا يُقبل العمل به وقد قال فيه النبى : يقول الله تعالى فى حديثه
القدسى{ أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ . مَنْ عَمِلَ عَمَلاً
أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ }[4]كل من عمل عملاً
أشرك فيه مع الله فى الوجهة والقصد الخلق أو النفس أو السمعة أو حب الظهور
فإنه بذلك حُرم القبول فى هذا العمل لأنه لم يأتى بالمواصفات الربانية التى
اشترطها رب البرية لقبول الأعمال من حميع البرية وهى الإخلاص، والإخلاص
يعنى أن يطلب بالعمل وجه الله{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ}وهذا العمل قد يظن البعض أنه فى العبادات وهل هناك للمؤمن عمل ليس
داخل فى باب العبادات؟إن المؤمن لو أخلص لله القصد والنية كانت حركاته
وسكناته كلها بالكلية عبادة وطاعة لرب البرية حتى تناول الطعام وحتى نكاح
زوجته وحتى مداعبة أولاده وحتى تخفيف الحزن عن مصاب وعيادة المريض كل عمل
يستطيع الإنسان أن يجعله عملاً صالحاً متقبلاً عند الله إذا سبقه بنية
خالصة، بأن يبغى بهذا العمل وجه الله والدار الآخرة ثم بعد ذلك يبغى إرضاء
الخلق لا بأس المهم أن ينوى أولاً وجه الله والدار الآخرة فلو عملت عملاً
أبغى به وجه الله - وكنت قدوة فى مكانى - وعملت هذا العمل أمام غيرى
ليقتدوا بى كان لى أجرين فهناك فرق بين ذلك وبين الرياء فالرياء هو الذى لا
يقصد صاحبه من وراء العمل إلا الخلق كأن يصلى ليقولوا عليه رجل صالح وإذا
لم يروه ربما لا يُصلى ولذلك وضع الأئمة الكرام ميزاناً للأُمة فى هذا
المقام فقالوا: من عمل العمل فى الظاهر أمام الخلق، وإذا عمله فى الخفاء لا
يزيد عن ذلك أى أن عمله أمام الخلق كعمله بمفرده أمام الحق، فهذا هو
الإخلاص أما إذا كان يعمل العمل أمام الحق، وإذا رآه الخلق زاد فى تحسينه
وزاد فى تهيئة نفسه، فهذا داخله نوع من الرياء - ليس كله رياء - ولابد أن
ينزه نفسه عنه، أو إذا عمل العمل ورآه الناس تشجع واستمر فيه، وإذا عمله
بمفرده لم يواصل وانقطع فهذا فيه شبهة رياء لأنه يقصد بالعمل وجه الله لكن
الأتم والأكمل والأفضل أن يعمل العمل يبغى به وجه الله سواء عمله أمام الحق
فقط أو أمام الحق والخلق، فإنه لا يبغى فى كلتا الحالتين إلا ابتغاء وجه
مولاه جل فى علاه وهذا ملحظ دقيق يلاحظه الصالحون فى كل زمان أو مكان
ليُخلصوا الأعمال لله فإن الله ضرب مثلاً للعمل الخالص وقال فيه مُشبهاً
له{مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً
لِلشَّارِبِينَ}يصنع الله اللبن الذى نشربه من بين الروث الموجود فى كرش
الحيوانات والدم الذى يجرى فى عروقها، لو وجدت فى اللبن قليلاً من الدم لا
تستطيع أن تشربه ولا تستسيغه ولو وجدت فيه ولو قليلاً جداً من الروث لا
تستطيع أن تشربه ولا أن تبلعه، ولكن الله خلَّصه من ذلك وذلك، مع أنه خرج
من بينهما ليعرفنا كيفية الإخلاص لرب البرية وأشار فى ذلك الصالحون إشارة
عالية فى هذا المعنى القرآنى - وإن كان المعنى الظاهرى لا نهمله بل نقره
ونعترف به – فقالوا: الدم إشارة إلى النفس يجرى من ابن آدم مجرى الدم
والفرث إشارة إلى الجسم لأنه يتغذى من هذه الأشياء التى تخرجها بطن الأرض،
فإذا كان العمل يتلذذ به الجسم، ويظهر به ويحصل صاحبه على الإعجاب بسببه،
فهذا العمل ليس خالصاً لله فالعمل بالجسم يراه الخلق، وإذا كان العمل ليراه
الخلق ففيه شبهة، وإذا كان العمل لتَطَلُع فى النفس كحب الشهرة وحب السمعة
أو الإعجاب بالنفس أو حب المدح أو حب الثناء كان أيضاً عملاً فيه شائبة
رياء ولكى يكون العمل خالصاً لله ينبغى ألا يكون فيه حظ لا للنفس ولا
للجسم، بل يكون الإنسان يبغى به وجه الله والذى يتمتع به القلب الصافى
الخالى من النزغات والنزعات، الذى يتوجه به صاحبه إلى مولاه جل فى علاه
فهجرة المؤمن الدائمة فى كل لمحة وفى كل طرفة إلى الله، لأنه فى كل لمحة أو
طرفة يتوجه بجارحة من جوارحه إلى حضرة الله بعمل إما عمل يخرج من اللسان
وإما عمل تفعله العين وإما خطاب تستنصت وتستمع إليه الأذن وإما عمل باليد
وإما عمل بالقدم وإما عمل بالفرج وكل هذه الأعمال يستطيع المؤمن أن ينال
بها رضاء الواحد المتعال إذا سبقها بنية صادقة صالحة فى هذا العمل يبتغى
بها رضاء الله ثم يتممها على نهج الحبيب نية ثم اقتداء بخير البرية بهذا
ينال العبد الأمنية وقد قال الله له قل لهم{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ
وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }فحياته كلها لله بل
موته كله لله كلمة الموت تعنى النوم لأنه إذا نام فإنما يستعين بالنوم على
القيام لطاعة من لا تأخذه سِنة ولا نوم فيكون نومه أيضاً لله لأنه ينام
رغبة فى القيام بعد ذلك بنشاط فى طاعة الله ولذلك كان النبى يقول{إنَّ
عَيْنَيَّ تَنامانِ وَقَلْبي لا يَنامُ}[5]إذا كان العمل لله لا يستطيع
أجره ولا نوره ولا ثوابه غير الله حتى الملائكة المقربين لا اطلاع لهم على
ذلك، والدليل أن الإنسان عندما يصوم ولا يعلم حقيقة الصيام إلا الله الذى
لا تخفى عليه خافية، يقول فيه الله جل فى علاه{ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ
لَهُ، إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِى، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ }[6]أى أنا
الذى أضع جزاءه وثوابه لأنه لا يستطيع وضع ذلك الثواب غيرى، حتى الملائكة
لا يعرفون ذلك أو إن شئت قلت أن معنى(وَأَنَا أَجْزِى بِهِ)أنا ورؤية وجهى
ومشاهدة جمالى وجلالى وكمالى هو جزاء الصائمين وهذا فى قول النبى{
لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ
لِقَاءِ رَبِّهِ }[7]فهذا أجر لا يستطيع أحد نعته ولا وصفه لأنها خصوصية من
الله لصاحب هذا المقام وكل أعمال المُخلِصين والمُخلَصين وورد فى الأثر(أن
الإخلاص سر من أسرارى أستودعه قلب من أحب من عبادى لا يطلع عليه شيطان
فيفسده ولا ملك فيكتبه[8]لأن المَلك لا اطلاع له على القلوب وإنما يرى
الأعمال ويسجلها كما يراها فى الظاهر أما الباطن فلا يعلمه إلا من يقول
للشئ كن فيكون{فَمَنْ كانتْ هِجْرَتُه إِلى دُنْيَا يُصِيبُها أَوْ إِلى
امْرَأَةٍ يَنْكِحُها – أو ما شابه ذلك من الأمور الدنيوية –فَهِجْرَتُه
إِلى ما هاجَرَ إِلَيه }فكان الصالحون فى كل زمان ومكان لهم فى بداية العام
الهجرى وقفة صادقة لتصحيح مراد النفس ونواياها وطواياها لتستعيد مكانتها
عند مولاها وخالقها وبارئها فيسارعون إلى تخليص القلوب – وهى موضع الطوايا
والنوايا – من كل شائبة تشوب الأعمال والأحوال والأقوال عند صدورها لأنهم
يراعون علام الغيوب حتى يَصلون إلى المقام العلى الذى يقول فيه المولى فى
كتابه القرآنى{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ
وَالْمُؤْمِنُونَ)أى يجب أن تعمل وتعلم علم اليقين أن العمل الذى تعمله أو
ستعمله فيما يستجد من أيامك ويُستقبل من عمرك سيراه الله ورسوله والمؤمنون
بهذه الكيفية أى اجعل الله أول قصدك، والتأسى بالحبيب غاية مرادك، والخلق
إن كنت تريد أن يتأسوا بك ويقتدوا بك فهى فى المرتبة الدنيا من نواياك
وطواياك وأحوالك، تصيب القصد وتحقق المراد لأن هذا هو المنهج الذى وضعه
الله للسابقين والمقربين فى كل زمان ومكان، إذا غيَّر المرء هذا النسق وجعل
غايته العظمى الخلق وادَّعى بعد ذلك أنه يريد بعمله الحق فإنه يغش نفسه{
مَنْ غَشَّنا فَلَيسَ مِنَّا }[9]فأول العام الهجرى وقفة مع النفس راجع
نفسك وراجع أعمالك التى عملتها فى العام المنصرم وضع لنفسك قاعدة تنال بها
رضاء الله فيما يُستقبل من الأيام واعلم علم اليقين أن الخلق أجمعين لو
اجتمعوا على أن يُثيبوك على عمل ولو تسبيحة واحدة لله ما استطاعوا أجمعين
واعلم أن الخلق أجمعين لو التفوا حولك وأحاطوا بك ما استطاعوا أن يُقربوك
قدر أنملة لرضاء رب العالمين فاقصد الله وعامل الله بإخلاص وصدق ويقين بمثل
ذلك يجدد الإنسان أحواله، بتجديد نواياه لله ولذلك كان بعض الصالحين لا
يخرج من بيته متوجهاً إلى أى عمل حتى يُحقق نواياه ويقول فى ذلك{إنى لا
أخرج من بيتى إلا إذا استجمعت سبعين نية كلها لله )وسبق الصالحين ليس بالكم
ولكن بهذه النوايا على سبيل المثال: لماذا أذهب إلى الندوات الدينية؟أذهب
لطلب العلم وطالب العلم فى سبيل الله حتى يرجع هذه نية أذهب للتوادد فى
الله والزيارة للإخوان الصادقين فى الله وفيها يقول{مَن عَادَ مَرِيضاً
أَوْ زَارَ أَخاً لَهُ في الله نَادَاهُ مُنَادٍ أَنْ طِبْتَ وَطَابَ
مَمْشَاكَ وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْزِلاً[10]أذهب لأقف على نفسى
أعرف ما لها وما عليها ومحاسبة النفس أساس وضعه النبى الكريم لأصحابه
وأحبابه المباركين إلى يوم الدين أن المرء يكون له وقت يحاسب فيه نفسه فى
كل يوم وليلة على ما قدَّم وعلى ما فعل فإن وجد خيراً حمد الله تعالى على
ذلك وإن وجد غير ذلك تاب واستغفر الله تعالى من ذلك فيدخل فى قول الله{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ
الصَّادِقِينَ}أذهب لأُطهر قلبى وأدخل فى قول رب العالمين فى جماعة
الحاضرين{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى
سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}نوايا لو أخذنا فى استجماعها ما استطعنا تعدادها
ولا سردها لأن النوايا التى تجيش فى قلوب الصالحين لا يستطيع أحد أبداً
عدَّها لكن الرجل الصالح يعيش فيها ويحيا بها ولذلك قال رجل من تلاميذ أحد
الصالحين[يا سيدى إن القوم يسئلون عن الطريق وعلومه وأذواقه ومشاربه
وفتوحاته فبِمَ أقول لهم فقال :قل لهم من لم يذق طعم العسل هل يستطيع وصفه؟
فسيقولون: لا، فقل لهم: كيف يستطيع وصفه؟ فسيقولون: إذا ذاقه قال فقل لهم
إن الطريق وفتحه لا يستطيع الحديث عنه ولا وصفه إلا من ذاقه فهو كالعسل]ليس
علماً نظرياً وليس سرد برهان يحتاج إلى أدلة وبراهين ولكنه علم ذوقى يقول
فيه الله{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ
عَنْهُ مَسْؤُولاً}فأثبت الله أن أدوات تحصيل العلم ثلاث:السمع من
الغيروالبصر فى الكتب أو فى الآفاق ثم الفؤاد وهو يتلقى من المَلك الخلاق
فأثبت للفؤاد أنه وسيلة من الوسائل التى يُحصل بها العلم ويُحصل بها الفهم
ويُحصل بها الذوق ويُحصل بها الشهود ولكن ذلك لأهله الذين خاضوا غماره
ومشوا على منوال الحبيب فى عطاءه فأعطاهم الله الجنى الدانى الوارف لأهله
لأنه طعام لا يناله بالذوق إلا من صفا ذاته ومشى على منهج أهله فى عطاءه
ونواله