لا يمكن ادراك فكرة جديدة من دون استيعاب ماهية مكوناتها الأساس لأن آليات الاستيعاب تلتقط المعلومات على نحو تفصيلي وتدريجي ليجري مقارنتها ومعالجتها بمثيلتها في الذاكرة ومن ثم ادراكها وحفظها. كما لا يمكن استيعاب فكرة جديدة بكل مكوناتها دفعة واحدة، لأن آلية الاشتغال للاستيعاب لا تنقل صورة عن واقع ما إلى الدماغ مباشرة وإنما تفكك مكوناتها إلى وحدات أصغر يسمح بمرورها عبر آليات الاستيعاب ليجري ادراكها. ومن ثم حفظها معلومة جديدة في الذاكرة وإلا فإنها تبقى مشوشة وغير مدركة عقلياً، وما جرى حفظه منها لا يتعدى تصور عام عن ماهيتها.
وفي المحصلة لا يمكن استردادها ثانية من الذاكرة إلا بصورها الجزئية المحفوظة، فكلما زاد مستوى وعي المتلقي وتعقل بالمعرفة أكثر فُعلت آلية استيعابه أكثر لأن المقارنة والمزاوجة والمعالجة حينها تكون أسهل فيدركها العقل.
وعلى الرغم من وجود آليات الاستيعاب لدى كل البشر لكنها ليست بالفعالية ذاتها لعوامل كثيرة منها درجة الذكاء، عوامل وراثية وبيولوجية ونفسية، وطريقة تلقي المعلومة... تساهم كلها في رفع درجة الاستيعاب. ومن ثم سرعة ادراك المعلومة وحفظها في الذاكرة بدليل هناك من يستوعب المعلومة خلال شرحها مرة واحدة، وهناك من يحتاج شرحها عدة مرات ليستوعبها.
يُعرف (( ل. روبنشتين )) الاستيعاب قائلاً : " إنه عملية تلقي المعارف ومعالجتها وحفظها لاستخدامها في مواضع جديدة لحل مسائل عملية ونظرية، وليس له علاقة بالذاكرة وحفظها وإنما ادراك الفكرة وتفهمها ليسهل حفظها بدقة وبصور مختلفة لاستخدامها مستقبلاً في استنباط حلول جديدة ".
إن عملية طرح الفكرة الجديدة وشرح مكوناتها بالتفصيل يسهل على المتلقي استيعابها، وتلك بحاجة إلى مهارة عالية فليس في مقدور كل مستوعب لفكرة ما شرحها للأخرين، فالكثير من المشتغلين في المجال التعليمي يدركون الفكرة أو المادة المراد تدريسها للطلبة لكنهم يفتقدون مهارة الشرح ليدركها المتلقي بسهولة، فكلما زادت وسائل الايضاح ومنها الصور وأمثلة المقارنة والتطبيق والاختبار العملي والتكرار... توفرت للمتلقي فرصة أكبر لإستيعاب المادة.
لكن هذا الأمر متوقف أيضاً على نوع المتلقي الذي يجب أن يكون مؤهلاً علمياً وثقافياً ونفسياً مع المادة المراد استيعابها ويكون منسجماً وصاغياً بإنتباه ودقة ليتمكن استيعاب تفاصل مكونات المادة أو الفكرة الجديدة. ومهما بلغ مستوى ذكاء المتلقي فلا يمكنه استيعاب فكرة جديدة تفوق مكتسباته العلمية والثقافية السابقة، فالمعلومة المراد ايصالها لابد أن تكون مقاربة لمستوى وعي المتلقي. وعلى خلافه لا يجدي نفعاً تكرار الشرح وتعدد وسائل الايضاح لأن العقل ذاته سيصاب بالشرود ويمل المتلقي ويجهد فيفقد حالة الاصغاء لفكرة تفوق مدركاته العقلية.
يلخص (( د. ليفيتون )) متطلبات الاستيعاب أنها : " التلقي الايجابي للمعلومة، والتعرف الحسي والمباشر عليها، والتفكير بها بعدّها معالجة فعالة، وإجراء عملية التذكر للمعلومة المعالجة التي جرى حفظها في الذاكرة ".
إن المعلومة الجديدة المستوعبة والمدركة والمحفوظة في الذاكرة لمدة زمنية طويلة من دون استخدامها وتذكرها عرضة لفقدان جزء من مكوناتها أو نسيانها لأنها تخزن في طبقات الذاكرة السفلى واستردادها على نحو كامل ليس سهلاً كما في المعلومة الجديدة التي يجري تذكرها على نحو مستمر والمخزنة في طبقات الذاكرة العليا.
إن الشرح الخاطئ للفكرة الجديدة أو فهمها على نحو غير دقيق نتيجة التلقي السيئ أو المقارنة والمعالجة غير الصحيحة في ذات المتلقي تحفظ بصورتها الخاطئة ويجري استذكار نفس صورتها المحفوظة، لذلك عملية تكرار الشرح مع وجود وسائل ايضاح كثيرة وملائمة يسهل على المتلقي اجراء مقارنات ومعالجات متكررة على نحو دقيق في ذاته لاستيعباب الفكرة أكثر وادراكها ليجري حفظها على نحو دقيق في الذاكرة.