تفسَّحوا يفسح الله لكم
قِلَّة التفسح في المجالس خلقٌ ذميمٌ، ومسلك شائن، فهو ناتج عن ضيق النفس، وحبِّ الاستئثار، وقِلَّة مبالاة في الآخرين.
فهناك من إذا جلس مجلسًا أخذ فيه مكانًا واسعًا؛ لأجل أن ينعم بالراحة، فيسلم من المضايقة.
بل إن بعضهم قد يُوسَّع له في المجلس، فيأتي ويتربع، فيأخذ مساحة واسعة في المجلس، بل ربما لا يرضى أن يأتي أحد بعد ذلك بجانبه.
قال بعض الحكماء: "رجلان ظالمان يأخذان غير حقهما: رجل وُسِّعَ له في مجلس ضَيِّقٍ فَتَرَبَّعَ وتفتّح، ورجل أهديت له نصيحة فجعلها ذَنْبًا".
ولهذا أدَّبنا الله -عزَّ وجل- بأن نتفسَّح في المجالس؛ لما في ذلك من زرع للمودة، وتوثيق لعرى الأخوة، وتَخَلُّصٍ من الأخلاق الذميمة.
قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11].
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي -رحمه الله- عن هذه الآية: "هذا أدب من الله لعباده إذا اجتمعوا في مجلس من مجالس مجتمعاتهم، واحتاج بعضهم، أو بعض القادمين للتفسُّح له في المجلس - فإنَّ من الأدب أن يفسحوا له؛ تحصيلًا لهذا المقصود.
وليس ذلك بضار للفاسح شيئًا، فيحصل مقصود أخيه من غير ضرر يلحقه. والجزاء من جنس العمل، فإنَّ من فسح لأخيه فسح الله له، ومن وسَّع لأخيه؛ وسَّع الله عليه".
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "مما يُصَفِّي لك ودَّ أخيك أن تبدأه بالسلام إذا لقيته، وأن تدعوه بأحب الأسماء إليه، وأن توسَّع له في المجلس".
وقال الأصمعي: "كان الأحنف إذا أتاه إنسان وَسَّعَ له، فإن لم يجد موضعًا تحرك؛ ليريه أنَّه يوسِّع له".
ولعلك أيها القارئ الكريم بعد ذلك ترجع البصر كرتين، وتتأمل الآية السابقة، وهي قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ}.
فسترى فيها عجبًا، وتأمَّل ذلك في نفسك عندما تكون في مكان ما، إما في مسجد وخصوصًا المسجد الحرام، أو المسجد النبوي وقت الزحام، أو في مكان عام يجتمع فيه جمهور من الناس ويَضِيق عليهم ذلك المكان، ثم أقبل قادم، وصار يلتفت يمنة ويسرة يبحث عن مكان يجلس فيه، ثم تكرمت، وتحفزت، وناديته، وأجلسته بجانبك، تأمَّل كيف فرحه وسروره، واغتباطه بذلك، وتأمَّل أثر ذلك في نفسك، فسترى صدرك ينشرح، ويتسع، وسَترى أساريرك تتبلج، بل سيلقى ذلك التصرُّف النبيل قبولًا وارتياحًا ممن يراه؛ وربما اقتدوا بك، فصار لك أجرُهم.
ولا يبعد أن يدخل في إشارات تلك الآية فسحُ المجال للمتحدث، وتركُ الاستئثار بالحديث في المجلس، والبعدُ عن مقاطعة من يَشْرَع بحديث، أو تكذيبه، أو إكمال كلامه؛ فلعلَّ ذلك كله داخل في مدلول الآية التي تُشير إلى الإيثار، وترك الاستئثار.