[size=16][size=25]د. هاني درغام
"ليس عجيبا أن يُذنب ابن آدم، ليس
عجيبا أن يتورط في المعصية؛ فهذه طبيعة خلقه أنه خُلق خلقا مزدوجا فيه
قبضة من طين وفيه نفخة من روح.. الطين يهوي به إلى الأسفل والروح ترقى به
إلى الأعلى، أحيانا ينزع إلى الطين ويخلد إلى الأرض فيكون كالحيوان وأضلُّ
سبيلا.. وأحيانا يعلو ويعلو حتى يكون كالملائكة أو أرفع مقاما؛ فلا عجب أن
يغلب الطين في بعض الأحيان على الروح، أن يغلب العنصر الأرضي العنصر
السماوي، أن يغلب العنصر الحيواني في الإنسان العنصر الرباني فيه فيقع في
المعاصي.
ليس عجيبا أن يذنب ابن آدم؛ فقد أذنب أبوه آدم، إنما العجيب أن يتمادى في الذنوب، أن يستمرئ طريق المعصية ويتوغل فيه، أن ينسى ربه وينسى التوبة إليه فتتراكم عليه الذنوب وتتراكم حتى يسود قلبه والعياذ بالله، وهنا الخطورة البالغة.. الخطر أن يغفل الإنسان عن التوبة ويستمر في طريق الشيطان ولا يحس بما هو فيه من خطأ وخطيئة"[1].
رباه..
ما أجمل التوبة.. عودة غانمة.. وتجارة رابحة.. وروضة غناء لا يذبل زهرها..
إنها شلال الجمال المتدفِّق من كوثر الرَّحمن الفواح بأريج عطاء الله
وكرمه.. إنها "غسل القلب بماء الدموع وحرقة الندم.. فهي حرقة في الفؤاد
ولوعة في النفس وانكسارٌ في الخاطر ودمعة في العين.. إنها مبدأ طريق
السالكين ورأس مال الفائزين وأول أقدام المريدين ومفتاح استقامة
المائلين"[2].
لله دُرُّ القلب التائب.. هرع إلى مولاه يحمل مواجيد الندم ومشاعر الألم يرجو رحمته وغفرانه.. "لكأن التوبة
نهرٌ عذب جار يتطهر العبد به من أدرانه.. ينغمس في مياهه مَنْ لوثته
الشهوات واكتوى بنار المخالفات فإذا النهر مغتسلٌ باردٌ يطفئ تلك النار
ويغسل تلك الأوزار فيخرج العبد منه نقياً من الأوساخ والشوائب"[3].
أخي.. قل لي بربك:
هل شممت مسكاً أزكى من أنفاس التائبين؟
هل سمعت بماء أعذب من دموع النادمين؟ هل رأيت لباساً أجمل من لباس المنكسرين؟
هل سمعت نداءً أجمل وأروع من نداء الله عزوجل الرحيم لعباده المذنبين العصاة ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ﴾ [الزمر: 53].
"إن
الغرقى إذ يسمعون هذا النداء الكريم ليرون بأعينهم رأي العين مراكب النجاة
تحفّ إليهم من كل جهة وليس عليهم إلا أن يتعلقوا بها ويشدّوا أيديهم
عليها لتحملهم إلى شاطئ النجاة والسلامة.. إنها ضيافة كريمة في ساحة رب
كريم.. وإنها نُزل مهيأة بكل أسباب الهناءة والرضوان يستقبل فيها على طريق
الحياة أولئك الذين أضناهم السفر الطويل وأكلت وجوههم لوافح الهجير..
فيجدون حيث ينزلون ظلا ظليلا وطعاما هنيئا وشرابا باردا.
فقل لمن يرى هذا المنزل الكريم ويعدل عنه:
ألا ما أعظم غباءك وما أشأم حظك وما أولاك بالذئاب تفترسك وبالحيات تنهشك
فلا يرحمك راحم ولا يبكيك باك.. من قريب أو صديق! فأي عذر لمذنب بعد هذا
البلاغ المبين إذا هو لم يسع إلى اللّه ويغتسل في بحر رحمته من أدرانه
ويتطهر من ذنوبه؟.. وأي عذر لمجرم بعد هذا النداء الكريم الرحيم إذا هو لم
يمدّ يده إلى ربّه ليقيل عثرته ويحمل عنه وزره؟"[4].
يا
للكرم الإلهي.. ويا للإنعام الرباني.. عرف سبحانه ضعفهم.. عرف تسلط
الغرائز عليهم.. عرف وسوسة الشيطان لهم.. عرف أن الإنسان خلق ضعيفا فكثيرا
ما يُغري بالشرور.. وكثيرا ما يتورط في الآثام.. وكثيرا ما تزل قدمه
فيطيع الشيطان ويسير في ركابه.. عرف الله ذلك من عباده ففتح لهم باب
التوبة.
حقيقة التوبة في عيون الصالحين:
يقول الإمام القرطبي: "التوبة هي الندم بالقلب وترك المعصية في الحال والعزم على ألا يعود إلى مثلها وأن يكون ذلك حياءً من الله".
ويقول الإمام ابن القيم: "التوبة هي الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يحب وترك ما يكره فهي رجوع من مكروه إلى محبوب".
وعرفها الإمام الغزالي بأنها: "العلم بعظمة الذنوب والندم والعزم على الترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي".
إن
للتوبة روحاً وجسداً.. فروحها استشعار قبح المعصية وجسدها الامتناع
عنهافإذا اقتصر القلب على المعرفة ولم يعمل بمقتضاها واستمر ماشياً في
الطريقالمنحرف لم ينفعه علمه بانحرافه.. بل إنه يكون أكبر ذنباً وأعظم
تبعة؛ لأن الذيينحرف وهو لا يعرف له بعض العذر، ولكن الذي يعرف الطريق
وينحرف عنه عمداً لاعذر له.
أركان التوبة:
1- الندم على ما فرط العبد في جنب الله:
والندم
انفعال القلب بالأسى والحزن والحسرة بسبب ما وقع من ذنب خوفاً من سوء
عاقبته عند الله أو حياءً من الله.. إذا تذكر عظيم ذنوبه وكثير خطئه هاجت
عليه أحزانه واشتعلت حرقات فؤاده وأسبل دمعه فأنفاسه متوهّجة وزفراته بحرق
فؤاده متصلة، إنه الشعور بالتقصير أمام الله عز وجل.. يستجمع الإنسان في
ذاكرته إساءته إلى الله وإحسان الله تعالى إليه.. يتذكر نعم الله تعالى
عليه ويتذكر معصيته لله عزوجل فينشأ من ذلك حالة الندم.. حالة الأسى
والأسف التي يذوب فيها القلب كما يذوب الملح في الماء.
2- الإقلاع بالفعل عن الذنب:
وهذا
هو الركن الثاني في التوبة: أن يترك المعصية في الحال من غير إبطاء أو
تسويف فإذا كان الندم الذي حصل في قلبه يمثل توبة القلب أو توبة الباطن؛
فإن توبة الظاهر حقيقتها أن يترك ممارسة المعاصي بجوارحه.. فكما تاب قلبه
بالندم تتوب جوارحه بترك المعصية.. فإن من صلح قلبه صلحت جوارحه.
3- العزم المصمم ألا يعود إلى الذنب:
لا
توبة إلا بهذا العزم.. أما إذا كان يتوب وهو يحن إلى المعصية ولا يزال في
قلبه تعلق بها ولا زال عقله يفكر فيها فهذه ليست توبة.. لابد أن يكون ساعة
التوبة
قاطع العزم كحد السيف مصرا على ألا يعود إليها كما لا يعود اللبن إلى
الضرع إذا خرج منه. قد يضعف بعد ذلك.. قد تخونه إرادته.. قد يغلبه هواه..
قد يصرعه شيطانه ويهزمه.. فالمعركة بين الخير والشر مستمرة ولكن المهم في
ساعة التوبة أن يكون عازما عزما أكيدا ألا يعود إلى الذنب: ﴿ وَالَّذِينَ
إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ
فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ
وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135].
وكيف
لا يعزم هذا العزم وهو يعلم أنه مع الذنوب كان متعرضا لعذاب الله في نيران
الجحيم يوم القيامة؟.. وأنه كان على شفا حفرة من النار فأنقذه الله منها
بالتوبة.. "وإنه ليكاد يصرخ بأعلى صوته: وداعاً.. بل بُعداً لك يا دنيا
المعاصي ولا لقاء بيننا بعد اليوم يا دنيا الهوى والشهوات.. وكم أنا سعيدٌ
بهذا الصلح مع الله سبحانه؛ مع ربي الذي لا غنى لي عنه طرفة عين وهو
الغني عني وعن خلقه أجمعين"[5].
من ثمرات التوبة [6]:
1- تكفير السيئات ودخول الجنات:
﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾ [التحريم: 8].
في
هذه الآيات دعوة إلى المؤمنين عامة أن يتوبوا إلى اللّه وأن يرجعوا إليه
كلّما بعدوا قليلا أو كثيرا عنه بما اقترفوا من آثام وما اجترحوا من
سيئات.. فإن التوبة تغسل الحوبة وهي الأسلوب الذي يصالح به العبد ربّه ويفتح به أبواب رحمته ورضوانه.
2- تجديد الإيمان:
فالتوبة
الصادقة تجدد الإيمان وترممه بعدما نالت منه الخطايا ما نالت.. فهي تقويه
بعد ضعف.. وتوقظه بعد رقود.. وتثبته بعد زعزعة بما تضيف إليه من أشواق
ومشاعر حية وجديدة تحفز إلي الخير وتزجر عن الشر.
3- تبديل السيئات إلى حسنات:
وهو قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً
﴾ [الفرقان: 70]، فأي جود هذا وأي كرم؟ وأي رحمة وأي غفران؟ إنه الله رب
العالمين الرحمن الرحيم! فسبحانه وبحمده من ملك غفور رحيم وإن هذا لبابٌ
عظيم.. باب من أوسع أبواب الرحمة الإلهية.
[/size][/size]