(يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا
أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ {9} وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن
يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى
أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ) ]المنافقون]
في هاتين الآيتين كما هو شأن الآيات القرآنية كلها أسرار تعبيرية بديعة. والذي دعاني إلى الكتابة
فيهما، أن سائلاً سألني مرة: لماذا قال تعالى: (فأصدق)
بالنصب وعطف بالجزم، فقال: (وأكن) ولم يجعلهما على نسق
واحد؟ فآثرت أن أكتب في هاتين الآيتين لارتباطهم.
(يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون).
لقد نهى الله في هذه عن الانشغال بأمر الأموال والتصرف فيها والسعي في تدبير أمرها،
والانشغال بأمر الأولاد إلى حد الفعلة عن ذكر الله، وإيثار ذلك عليه ومن يفعل ذلك كان خاسراً خسارة عظيمة.
هذا معنى الآية على وجه الإجمال، إلا أن هناك أسراراً تعبيرية تدعو إلى التأمل منها:
1ـ إنه قال: (لا تلهكم أموالكم) ومعنى (لا تلهكم): لا تشغلكم[1]وقد تقول: لماذا لم يقل: (لا تشغلكم)؟
والجواب: أن من الشغل ما هو محمود فقد يكون شغلاً في حق كما جاء في الحديث: "إن الصلاة لشغلاً" وكما قال تعالى: (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ) [يس]أما الإلهاء فمما لا خير فيه وهو مذموم على وجه العموم، فاختار ما هو أحق بالنهي.
2ـ لقد أسند الإلهاء إلى الأموال والأولاد فقال: ( لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم)
فقد نهى الأموال عن إلهاء المؤمن، والمراد في الحقيقة نهي المؤمن عن
الالتهاء بما ذكر والمعنى لا تلتهوا بالمال والأولاد عن ذكر الله وهذا من
باب النهي عن الشيء والمراد غيره، وهو كقوله تعالى: (فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم الله الغرور) ]لقمان] فقد نهى الحياة الدنيا عن غير المؤمن والمراد نهي المؤمن عن الاغترار بالدنيا
إن المنهي في اللغة: هو الفاعل نحو قولك: (لا يضرب محمود خالداً) فـ (محمود) هو المنهي عن أن يضرب خالداً، ونحو قولك: (لا يسافر إبراهيم اليوم)
فإبراهيم منهي عنة السفر. ونحو قوله تعالى: (لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن) ]الحجرات] فالقوم هم المنهيون وكذلك النساء وكما تقول: (لا تضرب خالداً)
و (لا تضربي هند) فالفاعل هو المنهي وليس المفعول به. والفاعل في الآية هو
الأموال والأولاد أما المخاطبون فمفعول به فالمنهي إذن هي الأموال
والأولاد، وهي منهية عن إلهاء المؤمن.
وقد تقول: ولم لم يعبر بالتعبير الطبيعي فيقول: لا تلتهوا بالأموال والأولاد، على أصل المعنى؟
والجواب: أن في هذا العدول عدة فوائد:
منها: أنه نهى الأموال عن التعرض للمؤمن وإلهائه عن ذكر الله فكأنه قال:
أيها الأموال لا تهلي المؤمن عن ذكري. فكأن الله يريد حماية المؤمن وذلك
بنهي السبب عن أن يتعرض له فكيف عن التعرض.
وفي هذا النهي مبالغة إذ المراد نهي المؤمن ولكنه بدأ بالأصل المسألة وهي
الأموال والأولاد فنهاها هي عن التعرض للمؤمن بما يلهيه فقد جعل الله
المؤمن كأنه مطلوب من قبل الأموال والأولاد تسعى لإلهائه وفتنته فنهاها عن
السعي لهذا الأمر لينقطع سبب الإلتهاء ويقمعه.
ومنها: أن فيه إهابة للمؤمن ألا يقع في شرك الأموال والأولاد بحيث تلهيه
وهو غافل مسلوب الإرادة، فنسب الإلهاء ليأخذ المؤمن حذره منها، فكأن
الأموال والأولاد ينصبون الشرك ليلهوه عن ذكر الله، فعليه أن يحذر من أن
يقع فيه كما تقول: (لا يخدعك فلان) فغن فيه إهابة لأخذ الحذر منه.
هذا بالإضافة إلى ما فيه منة التعبير المجازي اللطيف، وهو إسناد الإلهاء
إلى الأموال فجعلها عاقلة مريدة تنصب الشرك لوقوع المؤمن في الفخ.
جاء في (روح المعاني): "والمراد بنهي الأموال
وما بعدها نهي المخاطبين، وإنما وجه إليها للمبالغة لأنها لقوة تسببها للهو
وشدة مدخليتها فيه، جعلت كأنها لاهية وقد نهيت عن اللهو، فالأصل لا تلهوا
بأموالكم .. الخ. فالتجوز في الإسناد وقيل: إنه تجوز بالسبب عن المسبب
كقوله: (فلا يكن في صدرك حرج) أي: لا تكونوا بحيث تلهيكم أموالكم"[2]
وجاء في (تفسير البيضاوي): "توجيه النهي إليها للمبالغة"[3] .
3ـ جاء بـ (لا) بعد حرف العطف فقال: (لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم) ولم يقل: (أموالكم وأولادكم) ذلك أن كلاً من الأموال والأولاد داع من دواعي الإلهاء وكذلك الأولاد.
وق قال: (أموالكم وأولادكم) لاحتمل أن النهي عن
الجمع بينهما، فلو لم يجمع بينهما جاز، فلو انشغل بالمال وحده جاز، أو
انشغل بالأولاد وحدهم جاز، وهو غير مراد. إذ المراد عدم الانشغال بأي واحد
منهما على سبيل الانفراد أو الاجتماع.
4ـ قدم ألأموال على الأولاد لأن الأموال تلهي أكثر من الأولاد، فإن
الانشغال فيها وفي تنميتها يستدعي وقتاً طويلاً وقد ينشغل المرء بها عن
أهله، فلا يراهم إلا لماماً فقدم الأموال لذلك.
5ـ قدم المفضول على الفاضل، فالأولاد أفضل من الأولاد لأن المال، إنما يكون في خدمتهم ويترك لهم وذلك لأكثر من سبب.
منها: أن المقام مقام إلهاء كما ذكرنا فاستدعى تقديهما.
ومنها: أن المقام يقتضي ذلك من جهة أخرى، فغن هذا التقديم نظير التقديم في الآية اللاحقة من تقديم المفضول وهو قوله: (فأصدق وأكن من الصالحين) فقدم الصدقة على كونه من الصالحين.
ولما قدم النهي عن الإلتهاء بالمال قدم الصدقة. والصدقة إنما هي إخراج
للمال من اليد والقلب، والالتهاء غنما هو انشغال به بالقلب والوقت
والجارحة.
ولما قالب: (عن ذكر الله) قال: (وأكن من الصالحين) لأن المنشغل عن الفرائض وذكر الله ليس من الصالحين. فهو تناظر جميل.
لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم ... فأصدق.
عن ذكر الله ..... وأكن منم الصالحين
والملاحظ أنه حيث اجتمع المال والولد في القرآن الكريم، قدم المال على الولد إلا في موطن واحد، وذلك نحو قوله تعالى:
(شغلنا أموالنا وأهلونا) ]الفتح]
وقوله: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) الكهف
وقوله: (وجعلت له ما لا ممدوداً وبنين شهوداً) ]المدثر]،
ونحو ذلك، لأن المال في هذه المواطن أدعى إلى التقديم، إما لأن الانشغال
به أكثر كما ذكرنا، أو لأنه أدعى إلى الزينة والتفاخر وما إلى ذلك من
المواطن التي تقتضي تقديم الأموال.
أما المواطن الذي قدم فيه الولد على المال، فهو قوله تعالى:
(قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ
وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ
اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ
تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي
سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ
يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) ]التوبة]وذلك
لأن المقام مقام حب. ولا شك أن المتقدمين من الأبناء والأزواج وغيرهم أحب
إلى المرء من ألأموال لأنه إنما ينفق المال عليهم ويبقيه لهم بعد رحيله عن
هذه الدار
.
ثم لا تنس أنه قدم مجموع القرابات من الآباء والأبناء والإخوان والأزواج
والعشيرة، ولا شك أن هؤلاء بمجموعهم أحب إلى المرء من المال. فالأبناء
وحدهم أثقل من ميزان الآباء من الأموال، فكيف إذا اجتمع معهم ما اجتمع ممن
يحب؟
أما مسألة تقديم الأموال على وجه العموم، فلعل الله ييسر لنا البحث فيها.
6ـ قال: (ومن يفعل ذلك) ولم يقل: (ومن تلهه لك) فنسب الفعل إلى الشخص، لينال بذلك جزاءه ولئلا يفهم أنه ليس بمقدور الشخص الانصراف عن اللهو، وأنه غير مسؤول عن هذا الالتهاء.
فقال: (ومن يفعل ذلك) للدلالة على أن ذلك بمقدور، وأن هذا من فعله وكسبه. فالالتهاء ليس أمراً سلبياً، بل هو فعل يقوم به الشخص وينال جزاءه عليه.
7ـ ثم انظر كيف جاء لذلك بالفعل المضارع فقال: (ومن يفعل) للدلالة على استمرار الحدث وتكرره ولم يقل: (ومن فعل) بالماضي، ذلك لن الالتهاء بالأموال والأولاد أمر يومي ومتكرر، ولذا عبر عنه الفعل المضارع الذي يدل على التكرار والتطاول.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أنه لو قال: (ومن فعل)
لاحتمل أن ذلك الخسران الكبير، إنما يقع ولو فعله مرة واحدة وهو غير مراد.
ثم ليتناسب الفعل والجزاء إذ ليس من المعقول والقصر إنما الخسران الكبير
الثابت المدلول عليه بالجملة الإسمية والقصر إنما يكون لما وقع مرة واحدة
من الالتهاء، بل المناسب أن يكون ذلك لما تكرر حصوله وتطاول.
8ـ ثم قال بعد ذلك: (فأولئك هم الخاسرون) واختيار الخسران نهاية للآية أنسب شيء ههنا فإنه المناسب للالتهاء بالأموال والانشغال بها.
فإن الذي ينشغل بالمال إنما يريد الربح، ويريد تنمية ماله فقال له: إن هذا
خسران وليس ربحاً حيث باع "العظيم الباقي بالحقير الفاني"[4]
9ـ ثم إن الإتيان بضمير الفصل (هم) بين المبتدأ والخبر وتعريف (الخاسرون) بأل، إنما يفيدان القصر والتأكيد، أي أن هؤلاء لا غيرهم هم الخاسرون حقاً. وهم أولى من يسمون خاسرين فإنه لم يقل: (فأولئك خاسرون)، أو من الخاسرين ولو قال لأفاد أن خسارتهم قد تكون قليلة أو قد يشاركهم فيها غيرهم بل قال: (فأولئك هم الخاسرون) للدلالة على أنهم هم الخاسرون دون غيرهم وهم المتصفون بالخسارة إلى الحد الأقصى.
جاء في (روح المعاني): "وفي التعريف بالإشارة والحصر للخسران فيهم، وفي تكرير الإسناد وتوسيط ضمير الفصل ما لا يخفى من المبالغة"[5].
10ـ اختار الإلهاء عن ذكر الله دون غيره من العبادات فلم يقل مثلاً: لا
تلهكم عن الصلاة أو عن الجهاد أو عن غير ذلك من العبادات، ذلك أن ذكر الله
يشمل جميع الفرائض، فكل عمل تعلمه لا يكون لله إلا إذا كنت ذاكراً لله في
نفسك أو على لسانك أو مستحضراً له في قلبك والذكر قد يكون في اللسان، قال
تعالى: (وأذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة) ]الأعراف] وقال: (وأقم الصلاة لذكرى) ]طه] فذكر الله "عام في الصلاة والثناء على الله تعالى بالتسبيح والتحميد وغير ذلك والدعاء وقال الحسن: جميع الفرائض"[6].
ولذلك كان الخسران كبيراً فهو متناسب مع عظم المعصية، والله أعلم (وَأَنفِقُوا
مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ
وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ).
ولذلك كان الخسران كبيراً فهو متناسب مع عظم المعصية، والله أعلم (وَأَنفِقُوا
مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ
وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ).
1ـ تبدأ الآية بقوله: (وأنفقوا من ما رزقناكم) وهذا الأمر بالإنفاق مقابل النهي عن الإنفاق على أصحاب رسول الله من المنافقين فالمنافقون يقولون لأوليائهم: (لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا) ]المنافقون] والله يقول لأوليائه: (وأنفقوا من ما رزقناكم) فانظر كيف قابل النهي بالأمر.